طبيبك المقبل… لعلك ستحمله في هاتفك الذكي

 

هل أوصل الذكاء الاصطناعي البشر إلى نقطة تحوّل نوعية في العلاقة بين المريض والطبيب؟ ربما يبدو السؤال غائماً قليلاً، خصوصاً أن ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة لم تتوقف عن تبديل العلاقة بين المريض والطبيب (بل مجمل الرعاية الصحية) في العقدين الأخيرين، بل إن مصطلح الطب الرقميديجيتال ميديسن» Digital Medicine)، بات متداولاً منذ فترة ليست بالقصيرة. إذاً، ما الذي استجد لطرح سؤال عن تحوّل نوعي في مسار الطب الرقمي المعاصر؟ قبل الإجابة، ربما يجدر التنبّه إلى أن التغيير يحدث ببطء أحياناً، بل يتراكم إلى أن يصل إلى نقطة حاسمة (أو «كتلة حرجة» Critical Mass وفق تعبير شائع في الفيزياء الذريّة)، فيحدث التحوّل النوعي أو الانفجار وفق التعبيرات الذريّة!

الأرجح أن شيئاً ما مماثلاً يحدث في مسار الطب. وبعد أن ترسخ الدور الطبي للذكاء الاصطناعي عبر الشاشة الرقمية بوصفها وسيطاً بين المريض من جهة، والطبيب والرعاية الصحية من الجهة الثانية (إضافة إلى توسع الروبوت – الجرّاح)، انتقل الأمر الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة جديدة.

وببطء، تراكم صعود الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة نوعية في الطب الرقمي، ربما بداية من نقطة بعيدة من الطب كله! وفي عام 2004، استطاع كومبيوتر اسمه «واطسن» الفوز في مسابقة الألعاب التلفزيونيّة الترفيهيّة الشهيرة «جيوباردي»، لكن مشاركته كانت رمزيّة. وحينذاك، تباهى مختصو الذكاء الاصطناعي بالفوز لأن تلك المسابقات فيها نوع من «الارتجال» الذي يسود الظن بأن ذكاء الآلات لا يقدر عليه. وتكرر الفوز سنة تلو الأخرى، بل صارت مشاركات «واطسن» تنافسية وتتضمن الفوز بالأموال المخصصة لتلك المسابقة. وفي عام 2013، كرر «واطسن» انتصاره المعتاد في «جيوباردي»، ودخل موسوعة «غينيس» بوصفه الآلة الذكية الأكثر جمعاً للأموال الآتية من مسابقات تلفزيونيّة!

والأهم أن ذلك الفوز ضمن للكومبيوتر «واطسن» دخول إحدى كليّات الطب المرموقة في بريطانيا، ضمن برنامج لجعله «طبيباً» ينافس نظراءه البشر، ما جعله نقطة تحوّل في علاقة الذكاء الاصطناعي في الطب، خصوصاً الرقمي منه.

بين التفاعل والمراوغة

ربما لم تهتم وسائل الإعلام العربيّة بفوز «واطسن» في لعبة «جيوباردي!» أمام منافسيه من البشر، لكنه حدث غُطِّيَ بكثافة غرباً. لم تفت الميديا الغربية ملاحظة تفاصيل من نوع أن شركة «آي بي أم» التي صنعت «واطسون» سبق لها أن صنعت «ديب بلو» الذي هزم كاسباروف في الشطرنج في 1997. واستعادت وسائل ميديا أن تلك الهزيمة كانت قاسية إلى حدّ أن الجولة الأخيرة لم تضمّ سوى 19 نقلة كانت كافية لإعلان انتصار «ديب بلو».

وتحدّث الإعلام الغربي أيضاً عن تفاصيل أكثر دقة، كالإشارة إلى أن اسم واطسن مقتبس من عبارة «هيا بنا يا واطسن» التي تردّدها الشخصية الروائية الشهيرة: شارلوك هولمز. ويحمل الأمر تلميحاً ذكيّاً إلى استفادة ذكاء الآلات من تجارب البشر التي تحمل سمات مميّزة لذكاء الإنسان.

وفي سياق متّصل، تمتع خبراء الكومبيوتر بانتصار الروبوت في إحدى ألعاب الورق، وهي لعبة البوكر، بل اعتبروا أن له مذاقاً نوعيّاً. وعقب كسب الذكاء الاصطناعي جولة في لعبة البوكر في 2014، صرّح البروفسور مايكل بولينغ، وهو مختصّ بالمعلوماتية في جامعة «آلبرتا» قاد فريق صنع البرنامج، أن الانتصار في البوكر يمثّل نقلة نوعيّة في الذكاء الاصطناعي.

وبرّر بولينغ رأيه بالإشارة إلى أن لعبة البوكر فيها استخدام أشياء غير المعلومات وذكاء الحساب، إذ يفترض في لاعب البوكر أن يخمّن الأوراق التي يحملها الخصوم، مع ملاحظة أنه لا يراها، وأن يكون لديه حدس ما عن طريقتهم في اللعب. في المقابل، كثيراً ما يمارس لاعب البوكر نوعاً من المخادعة و «البلف» كي يوحي لخصومه بقوة الأوراق التي يملكها. وأشار بولينغ إلى أن ذلك النوع من العمليات الذكيّة هي أشياء لم يكن يُظن أن الذكاء الاصطناعي للكومبيوتر يستطيع الوصول إليها!

منافسة تنشر الرعاية الصحية

في قول آخر، حقق الذكاء الاصطناعي قفزة نوعية وضعته على عتبة القدرة على الاستنتاج والتفاعل مع البشر (إلى حد المراوغة)، بل توقع استنتاجاتهم وخططهم! والأرجح أن تلك القفزة النوعية وجدت في الطب الرقمي مساحة أخرى لعملها، بالأحرى أن العاملين في «ديجيتال ميديسن» استفادوا منها في تطوير أعمالهم وبرامجهم. وفي مستهل صيف 2018، ظهر في بريطانيا تطبيق رقمي مخصص للـهواتف الذكيّة، تميّز بأنه على درجة من الذكاء تمكنه من التوصل إلى تشخيص الأمراض كأنه طبيب صحة عامة من البشر! وحرك ذلك التطبيق نقاشاً بين أطباء بريطانيا الذين أحس بعضهم بلسعة المنافسة، فيما رأى آخرون أنه يهدد بحرمان الأطباء أحد مواردهم المالية.

في المقابل، أكدت شركة «بابيلون» البريطانيّة المختصة بالذكاء الاصطناعي أن تطبيقها في الطب الرقمي استطاع التفوق على أطباء في تشخيص الأمراض. ويطلب التطبيق من المريض وصف الأعراض المرضية التي يعاني منها، ثم «يتحاور» معه عبر سلسلة من الأسئلة التي لا تتطلب سوى بضعة سطور للرد عليها. ويكون ذلك كافياً كي يتوصل التطبيق – الطبيب إلى تشخيص المرض، بدقة كبيرة! واستطاع ذلك «الطبيب» القابع خلف شاشة الهاتف الذكي أن يجتاز امتحاناً في الطب من النوع الذي يخضع له خريجو الكليات الطبية البريطانية قبل السماح لهم بممارسة المهنة فعلياً بوصفهم أطباء في الصحة العامة.

واستطاع «التطبيق – الطبيب» اجتياز ذلك الامتحان بنسبة فاقت 80 في المئة، فيما لا ينجح الأطباء البشر فيه إلا بنسبة 72 في المئة. ولم يكن غريباً أن يصف علي بارسا، مؤسس «بابيلون» تلك النتيجة بأنها تاريخية، مشيراً إلى أنها تعني أيضاً أن كل شخص لديه هاتف ذكي يملك طبيباً يعطيه مشورة طبيّة موثوقة. وعلى عكس أطباء استثار الأمر مخاوفهم، رأى الطبيب آندرو غودارد، وهو رئيس «الكلية الملكيّة للأطباء» (تضم صفوفها 34 ألف طبيب)، أن الذكاء الاصطناعي يمثل المستقبل الفعلي للطب المتصل بالصحة العامة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى