في جنازة بطل !
في جنازة بطل !
ـ إحدى مهمات القائد الحقيقية:أن يبقي جذوة الأمل حيّة ـ
كان الموكب يعبر الناحية الموصلة مباشرة إلى ميدان التحرير، في القاهرة .
كان ثمة فلاح يقف على جانب الطريق، مفتوح العينين . ما لبث أن سال من يقف إلى جواره :
ـ هو مين يابني اللي مات ؟
ـ والله يا عم ما نا عارف… واحد شهيد اسمه ” رأفت الهجان” .
ـ شهيد ؟!
ـ همَّ كاتبين كده.
لبث الفلاح ساكناً لثوان، وكأنه يقلّب الأمر في رأسه. ثم، فجأة، رفع طرف جلبابه، حتى لا يعيق حركة ساقيه المهرولتين… وهو يقول:
ـ يا ولداه… شهيد ومش لاقي حدّ يمشي وراك ؟
وسرعان ما انضم إلى موكب المشيعين الأحد عشر.
……………….
كانت جنازة بطل مصري، سري، عمل في إسرائيل جاسوساً لمصر في الستينات، ولمدة طويلة، وقدّم للجيش المصري، وللقيادة العسكرية والمخابرات الحربية معلومات هامة جداً. وعندما توفي الهجان… رتب له القصر الجمهوري جنازة بسيطة. هي التي رآها الفلاح ، ومشى فيها.
ومسلسل رأفت الهجان، واحد من أفضل المسلسلات المصرية، بالتأكيد، ولكنني لست من هواة الجلوس في صالة البيت للتفرج في موعد محدد على مسلسل. فكنت أرى ، بين الحين والآخر، حلقة أو حلقتين، واستفسر ، من شركاء الجلسة، عن هذا الممثل أو ذاك.
ذات يوم كنت في سهرة عند الكاتب الفلسطيني زياد عبد الفتاح، في تونس، وكان بيننا محمود درويش.
زياد وشركاه مغرمون بلعب الطرنيب. ولديه الطاقم. بقينا محمود وأنا دون تسلية. فاقترحوا أن نتفرج على رأفت الهجان (فيديو). ولا سيما الحلقات الأخيرة. وهكذا . وضعنا أمامنا كأسين، وصمتنا نتفرج.
ساعتان، ثلاث. وصلنا إلى الحلقة التي يموت فيها الرئيس جمال عبد الناصر، ورأينا كيف تلقى النبأ “رأفت الهجان” وهو في إسرائيل.
كان أداء الممثل ” محمود عبد العزيز” فادحاً، بالمعنى الحرفي للكلمة. والمشاهد المتعلقة بالخبر، في مصر وإسرائيل، وفي بيت الهجّان متقنة وحقيقية كما لا يمكن فعل الأفضل .
في مصرالثكلى , والناس والذهول، وعدم التصديق .
في إسرائيل الرقص والسرور والاحتفالات.
في شقة الهجان : المصري في غربته، وعزلته، وسرية هويته… استفرد به حزن الوطني، بتوجسات العارف السياسي…
… وفي لحظة انهياره العاطفي، وهو يبكي… بكينا محمود وأنا…هكذا بوضوح شديد لانكسار عتبة التحمل النفسية. وذلك بعد مرور أكثر من ربع قرن على رحيل عبد الناصر!
………………..
… وقبل ربع قرن من تلك الجلسة، ذات ليل في دمشق، العام 1968 يوم 28 أيلول/ سبتمبر احتفلت بصديقة بمناسبة عيد ميلادها. وكنت، لأول مرة على أهبة مشروع حب معها.
وباختصار…
في اللحظة التي سنطفىء فيها الشموع، وكنت أبحث عن أغنية في الراديو… خرج عبد الباسط عبد الصمد من مكمنه في إذاعة ” صوت العرب” وبعد لحظات عرفنا أن عبد الناصر مات.
وطبعاً لم نبك… بل انتحبنا. ولم نكن نعرف تماماً لماذا ؟ ولكنني سأدعي أنني قلت لها :
ـ بعد عبد الناصر… سيأتي المخاتير الصغار !
………….
جرت مياه كثيرة تحت جسور النيل منذ تلك الأيام . ماتت كل المشاريع… لم يعش أي مشروع سوى الخراب.
مات عبد الناصر ولم يستطع أن ينتصر. لكنه، في وجدان المصريين، رغم هزيمته… بطل من هذا الزمان…
أم الشاعر أحمد فؤاد نجم… كانت في زيارته في السجن. فبكت. قال لها: أتبكين على سجّان ابنك ؟ فقالت له :
ـ انهدّ عامود البيت… ياحمار!
…….
يوم وفاة هذا الرجل… كان في حسابه المصرفي مبلغ 273،3718 جنيهاً ، وكان في جيب بنطاله 84 جنيهاً.
وليس لديه شقة في مصر كلها !
27.09.2013