أطلال الفكرة
الكتاب المصفرّ الأوراق، القديم والمهترئة أطرافه، إذا ما عثرت عليه يوماً، بين أطلال ما، خلفتها الحروب أو الزلازل، أو الرحيل وانقراض المدن… هذا الكتاب يعطيك درسه الأول :
“ثمة مَن كانوا ولم يعودوا هنا” .
ودرسه الثاني:
” إن الذي ترك لك هذه الكلمات مؤلفٌ مات، منذ آلاف السنين أو مئات السنين…
أو ذات يوم ربيعي ….
عثرت، مرة بين الأنقاض ، على كتاب قديم أصفر ، مهترىء، ومتروك. فوقفت على أطلاله، كأنني جدّي البدوي في ما بين نجران وعسير. أو ما بين تدمر والفرات.
كان الكتاب بخط اليد، أي أنه ليس مطبوعاً، ولهذا فهو شخصي وانتقائي. قرأت:
خذوا مال التجار فسوّفوهم إلى وقت، فإنهم لِئامُ
وليس عليكم في ذاك إثمٌ فإن جميع ما جمعوا…حرامُ
هذه الأبيات في صفحة من الدفتر/ أوالكتاب المذكور، وبصعوبة قرأت اسم الشاعر المجهول:” محمد بن حمدون النديم”. كما أنني لا أعرف في أي عصر عاش، ولكنه لسان مرٌ صالح لأيامنا هذه. فلم تعد التجارة إحدى المهن الشريفة للأنبياء.
لقد كان النبي محمد تاجراً.
في صفحة أخرى: لقي الخليفة المنصور رجلاً في الطواف، في الكعبة، والرجل لا يعرفه. فأمسكه المنصور من يديه وقال: ألا تعرفني؟ فقال الرجل:
لا أعرفك، ولكن قبضتك قبضة جبّار.
مما تعلمنا إياه الكتب:
فكرة استخلاص العبرة من العابر. فإذا كنت كاتباً ستريك الحياة أشياء صغيرة ولكنها حاسمة.. فإذا رأيت حذاء مثقوياً لفقير في الطريق، فإنك لن تفكر كيف تؤمن له حذاء جديداً… وإنما قد يخطر لك ما خطر لمن سبقك إلى العبرة:
“أريد حذاء جديداً لا تدخل من ثقوبه كل فصول السنة”. أو:
“ظللت أبكي لأني بلا حذاء، حتى رأيت رجلاً بلا قدمين”.
إن الكاتب الجائع قد لا يفرض عليه سوء التغذية، سوء الإنتاج، ولكن في نفس الوقت “المال للكاتب هو وقت للكتابة”. وربما لهذا السبب لا يدفع الاستبداد مكافآت مجزية للكتاب إلا إذا علّمهم سرقة النص ومهنة المدائح.
إن مكافاة الكاتب يجب أن تكون هطولاً مطرياً وسخاء لا يقاس بعدد الكلمات. فثمة وفرة في العملات الوطنية قد لا يتوفر الوقت لصرفها إلا بحريق مفتعل، أو زوال نظام البخل الإداري للمال العام.
إن مكافاة الكاتب تتضمن ثمنا… لأطلاله. ولربما يستحسن إضافة ثمن ترميم كتاب مصفرّ الأوراق قديم ومهترىء و…ذي عبرة.
وربما ينبغي التعويض عن رئة خرّبها فساد الأمكنة … الامكنة القلقة التي تسمى أوطاناً.
