أفغانستان 2001 – 2021: «مقبرة الإمبراطوريات» تهزم أميركا
بعد مضيّ 20 عاماً على افتتاحها حرباً كونيّة على الإرهاب، بدأتها من أفغانستان التي مهّدت الطريق نحو التغلغل في الشرق الأوسط «الأوسع» لتأمين الظروف المؤاتية لـ«القرن الأميركي الجديد»، ها هي الولايات المتحدة تتّخذ قراراً بالانسحاب، هو في الواقع صِنو للإقرار بالهزيمة. إقرارٌ لن يثني، على أيّ حال، صنّاع السياسة في واشنطن من التوجّه للتركيز على أولوية المواجهة مع المنافسين الدوليين، الذين باتوا يتنفّسون الصعداء لقرب إخلاء القوات الأميركية مواقعها في أفغانستان التي تستحقّ بجدارة لقب «مقبرة الإمبراطوريات.»
وجدت الولايات المتحدة، أخيراً، ما تعتبره «مخرجاً مشرّفاً» من مأزقها الاستراتيجي في أفغانستان: أولوية التركيز على المواجهة مع المنافسين الدوليين الرئيسين. القناعة في أوساط نخبها الحاكمة ودولتهم العميقة بأن الحرب الأطول في تاريخ بلادهم، والتي دامت 20 عاماً، تحوّلت إلى فشل ذريع واستنزاف بلا طائل لقدرات الإمبراطورية الأميركية البشرية والمادية، قديمة، لكن لم يتجرّأ أيّ رئيس قبل جو بايدن على اتّخاذ قرار بالانسحاب، هو في الواقع صِنو للإقرار بالهزيمة. تستحق أفغانستان لقب «مقبرة الإمبراطوريات» بجدارة. لقد نجحت مجدّداً، بفضل عناد شعبها وقواه المقاومة، بقيادة حركة «طالبان» هذه المرّة، في كسر إرادة دولة عاتية، سُمّيت يوماً «القوة الخارقة» الأميركية، وأكدت دروس التاريخ السابقة بأن الانتصار على الاستعمار والاحتلال شرطه الصمود والثبات مهما غلت التضحيات.
شُنّ العدوان على أفغانستان بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001، في إطار ما أعلنته واشنطن من «حرب شاملة على «الإرهاب» على نطاق الكوكب، وفي هذا الاندراج بالذات، تكمن جذور الفشل الأميركي. فأفغانستان، من منظور أصحاب مشروع التوسّع الإمبراطوري من محافظين جدد وقدماء، لم تكن سوى المحطّة الأولى للانطلاق بعدها نحو الشرق الأوسط «الأوسع»، لتأمين الظروف المؤاتية لـ«القرن الأميركي الجديد». غطرسة القوة شجّعت أصحاب هذا المشروع على الاعتقاد بإمكانية حسم الصراع بسرعة مع «طالبان» و«القاعدة»، ومن ثمّ تلزيم إدارة شؤون البلاد لائتلاف من أمراء الحرب والزعماء القبليين وتجّار المخدرات، يطلِق عليه شريف الله دوراني في كتابه «أميركا في أفغانستان» اسم «ائتلاف الجريمة المنظّمة»، والانتقال إلى ساحة حرب أخرى، وهي العراق. وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي تمّت في الأشهر الأولى من «حملة أفغانستان»، أي إسقاط نظام «طالبان»، وتدمير النواة التنظيمية والأيديولوجية لـ«القاعدة»، فإن مفاعيل خيار الانتقال إلى العراق، والتي ظهرت في السنوات التي تلت، أدت إلى تورّط أميركي مباشر وواسع النطاق في حرب مكافحة تمرّد في بلاد الأفغان، كانت مآلاته الطويلة الأمد كارثية بالنسبة إلى الغزاة الأميركيين وحلفائهم.
من الممكن تقسيم 20 سنة من الحرب في أفغانستان إلى 3 مراحل رئيسة. المرحلة الأولى، هي مرحلة «مكافحة الإرهاب»، التي امتدّت من 2001 الى 2006، وتميّزت بدعم أميركي كبير لقوات «تحالف الشمال»، التي تحوّلت إلى الجيش النظامي في ما بعد، ومشاركة مباشرة، ولكن في كثير من الأحيان موضعية، في العمليات العسكرية ضدّ «القاعدة» و«طالبان». كان عديد القوات الأميركية آنذاك 28800 جندي، وهي تمكّنت، بالتعاون مع حلفائها الأفغان والدوليين، من إسقاط نظام «طالبان» والقضاء على النواة التنظيمية والأيديولوجية لـ«القاعدة» بكلفة بشرية محدودة بالنسبة إليها، تمثّلت في مقتل 212 من جنودها. المرحلة الثانية استمرّت بين 2006 و2014، وهي الفترة التي شهدت زيادة نوعية في عديد القوات الأميركية وقوات حلف «الناتو»، وانتقالاً إلى استراتيجية «مكافحة التمرّد»، مع ما تعنيه من انتشار عسكري واسع في طول البلاد وعرضها، ومساهمة مباشرة في المعارك الميدانية. وصل عديد القوات الأميركية وحدها سنة 2011 إلى 100000 جندي، بالإضافة إلى 40000 جندي من قوات «إيساف» التابعة للأمم المتحدة وقوات حلف «الناتو». ارتفعت خسائر الجيش الأميركي، خلال هذه الفترة، إلى 2045 قتيلاً. المرحلة الثالثة، الواقعة بين 2015 و2021، والتي تلت سحب جزء كبير من القوات الأميركية في 2015، شهدت تغيّراً في دور تلك القوات، الذي بات، إلى درجة كبيرة، محصوراً في تدريب القوات الأفغانية، وتقديم المشورة لها ودعمها في الميدان، مع ما نجم عن ذلك من تراجع في خسائر الأميركيين البشرية إلى 99 جندياً خلال السنوات الـ6 الأخيرة.
يقول تيم ويلاسي ويلسي، الذي عمل في قسم جنوب آسيا في الخارجية البريطانية لمدة 27 عاماً، في تحليل نشره على موقع «سايفر بريف»، إن «هناك ستة دوافع لقرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان: الأول هو أنه لا معنى للإبقاء على انتشار القوات الأميركية وتعريضها للخطر في ظلّ غياب استراتيجية شاملة تسمح بالوصول إلى حل سياسي وأفق واضح لنهاية الصراع؛ والثاني هو أن الحكومة الأفغانية مقاوِمة بعناد للإصلاح؛ والثالث هو الفساد المتفشّي الذي نما أساساً بسبب زراعة الأفيون، وتعاظم منذ 2001، واستولى على مبالغ طائلة من المساعدات الدولية؛ والرابع هو أنه على الرغم من أن عدّة بلدان تريد الاستقرار في أفغانستان، فإن الصين وروسيا وإيران غير مستعدّة لمساعدة الولايات المتحدة للتوصّل إلى حل تفاوضي؛ الخامس هو أن طالبان لم تتغيّر، وهذا ما تثبته حملة الاغتيالات التي باشرتها بعد اتفاق الدوحة معها؛ أمّا السادس فهو أن باكستان، على عكس مزاعمها، تُفضّل استيلاء طالبان على السلطة في كابول». ويلسي لا يؤيد قرار الانسحاب من أفغانستان، لكنه يتفهّمه. غير أنه لا يحاول تفسير الفشل الذريع الأميركي الذي قاد بايدن، والأخير كان داعماً لاجتياح هذا البلد ولعملية «بناء الأمّة» التي تلته، إلى اتخاذ مثل هذا القرار.
جونا بلانك، الخبير في شؤون جنوب آسيا، والذي عمل كمستشار سياسي لبايدن عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، وسافر معه مراراً إلى أفغانستان، يقدّم، من جهته، تفسيراً للانسحاب في مقال نشره على موقع «ذي أتلانتيك» بعنوان «الخطيئة الأصلية للحرب في أفغانستان». يقول بلانك إنه «في 2001، حتى أكثر الصقور تشدُّداً لم يكونوا يرغبون في غزو أفغانستان: كانوا يريدون اجتياح العراق. المحافظون الجدد من أمثال بول وولفوفيتز ودوغلاس فيث، كانت لديهم رؤية حول كيفية إعادة صياغة هذا البلد على الطريقة الأميركية. المحافظون القدامى مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد عملوا لإزاحة صدام حسين واستبداله بدمية طيّعة وردع أيّ عدو آخر. المعسكران نظرا إلى أفغانستان على أنها ملهاة غير مستحبّة عن المهمّة المركزية، وهي غزو العراق، غير أنهم اعتمدوا حيالها المنطق إيّاه». وبمجرّد أن وقعت الحرب، وظنّ المسؤولون الأميركيون أنهم أجهزوا على «طالبان» و«القاعدة»، استداروا مباشرة نحو العراق… ونسوا أفغانستان. عنى ذلك تلزيم إدارة بلد مترامي الأطراف إلى وكلاء محليين فاسدين، وتخصيص القدر الأكبر من الموارد المالية والعسكرية والفكرية لمعركة العراق القادمة. لم تكن حركة «طالبان» تحظى بتأييد قطاعات واسعة من الشعب الأفغاني، بما فيها قطاعات واسعة من الباشتون، لكن دعم المحتلّين الأميركيين لزعماء الأمر الواقع، وما اعتمدوه من سياسات نهب وتنكيل، سمح لطالبان باستمالة كتل كبيرة ومهمّشة من الأفغان مختلفة الإثنيات، وتصعيد عملها العسكري ضدّ الاحتلال وأعوانه. وقد جاء رفع عديد القوات الأميركية وخوض الأخيرة لـ«حرب مكافحة التمرّد»، وهي عملياً حرب موجّهة ضدّ السكان بهدف تأليبهم على المقاومة تقود دائماً إلى نتائج عكسية، إلى تكريس «طالبان» كحركة مقاومة وطنية ضدّ احتلال أجنبي.
هذا هو الواقع الميداني في أفغانستان منذ بداية عهد باراك أوباما الثاني، لكن الأخير، ومن بعده دونالد ترامب، لم يتّخذا قراراً بالانسحاب حتى لا يحملا مسؤولية الهزيمة. بايدن يحاول تصوير اتخاذه قراراً كهذا على أنه تحكيم لمنطق الأولويات الاستراتيجية المستجدّة على ما عداها، غير أن المبرّرات التي يوردها لن تنجح في التغطية على الهزيمة الكاملة التي مُنيت بها الإمبراطورية المتغطرسة، ولكن المنحدرة.