إحصاء في الفساد
ما أكثر ما كتب عن الفساد و ما سوف يكتب عنه ! الفساد عريق عراقة الإنسان، وإذا كانت الرشوة مظهراً شائعاً من مظاهره فهناك من يقول من المفكرين المتشائمين في طبيعة الإنسان وفطرته إنه لا وجود لإنسان غير قابل للفساد ، و من لا يرتشي مثلاً فهو فقط الإنسان الذي لم يعرض عليه ما فيه الكفاية .
وهناك – من المنظرين – من يمدح الفساد شريطة أن يكون حجمه محدداً معقولاً، إذ يراه حافزاً على الإستزادة من الوعي والإنتباه والخوف على مصير المجتمع في مواجهة القائمة والمحتملة، و بهذا تزداد قابلية الكائن البشري في الإبتكار والإختراع وتحسين الظروف لعيشه وصيانتها من عومل الفساد.
إن مجتمعاً لا فساد فيه لا وجود له على الأرض، وإلا فمن الضروري أن نتصور البشر وقد تحولوا إلى ملائكة ، وعندئذ قد يقضي الملل من رتابة دورة الحياة على الرغبة في التغيير و التجديد ، وقد يؤدي ذلك إلى الكسل والإنحطاط شيئاً فشيئاً. وليس لهذا من معنى سوى أنه من المستحيل القضاء على الفساد تماماً وإنما صار جهدنا التخفيف من وطأته واستفحال أمره . و حين نكتب فنحن معشر الكتاب لا تأخذنا الأوهام بأننا نطمح إلى التحلي بطهارة خفية من الفساد وأنه في الإمكان بلوغ هذا الهدف على الأرض .
هذا مطلب مستحيل بالتأكيد على أرض البشر، وهو أمرمتروك للعناية الربانية في ” الفردوس الموعود ” ولحكمتها التي لا نفكر في أن نتدخل فيها .
نذكّر في هذا الموضوع بأهمية الأفكار الواردة منذ أمد بعيد في الكتاب الذي صدر عام 1837 تحت هذا العنوان : ( الديمقراطية في أمريكا ) للباحث و المفكر المعروف ” الكيسس ده توكفيل” حين قال : (( الأرستقراطيات أقل فساداً من الديمقراطيات ذلك لأن الذين يمسكون بمقاليد الأمور في النظام الأرستقراطي أناس أغنياء ليس لهم من طمع آخر سوى السلطة ذاتها ، في حين أن رجال الدولة في الديمقراطيات فقراء وثرواتهم ما تزال برسم التكوين ومن هنا قابليتهم للفساد))، ولكنه أضاف فيما بعد على قوله هذا عبارة تصحيحية : ” إن أمراض الديمقراطية لا تعالج إلا بمزيد من الديمقراطية “.
و خير دليل على ذلك الأرقام التي إستخلصها ” معهد الشفافية الدولي ” التابع لجامعة ألمانية من خلال الفحوص التي قام بها في أربع وخمسين دولة في العالم ، فأعطيت لكل دولة علامة بين الصفر والعشرة حسب مستوى الفساد فيها ، فأكثر الدول فساداً هي ذات العلامة القريبة من الصفر ثم تتحسن صورتها باقتراب علامتها إلى العشرة وقد ضرب الرقم القياسي في النظافة من الفساد الدول الإسكندنافية ، فالدانمارك حصلت على 9.94 و فنلندة 9.48 و السويد 9.35 و تلتها نيوزيلندا 9.33 و كندا 9.30 … و هكذا و يظهر لأول مرة في هذا الجدول إسم دولة عربية هي ” الأردن ” و علامتها دون الوسط 4.89 ، وبالمقابل فقد لوحظ أن كثرة من ” دول النظام الإستبدادي ” تحتل مكانها في الدرجة ما قبل الأخيرة من هذه الظاهرة التعيسة وفي مقدمتها الصين وروسيا 2.27 وتحتل مصر موقعها بعلامة متدنية أي 2.84 أما آخر القائمة فتحتله نيجيريا مع الباكستان بعلامة 1.76…
لم يرد إسم سوريا وكثير من الدول الأخرى في هذا البيان بسبب فقدان الشفافية أو صعوبتها فيها كما يذكر الباحثون، غير أن هذا الإختبار ضروري بالتأكيد لنا حتى لا نقع في الإفراط أو التفريط وكلاهما لا ينسجمان مع عهود الدول التي لم تسمح بهذا الإختبار فيها مثل بعض الدول العربية أو معظمها كما هو معلن .. و الله من وراء القصد …