“الإيلام” سبيلٌ وحيد لإنهاء الحرب الإسرائيلية التدميرية على غزة ولبنان!
محمد هلسة
في حال أراد الحزب أن يُغيّر في إرادة القتال لدى حكومة نتنياهو، مع غياب إمكان تدخّل أطراف إقليمية أو دولية لوقف الحرب، لا يبقى إلا الرهان على مسار “الإيلام” ورفع تكلفته بما يفوق مقدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمّله.
علّمتنا شواهد التاريخ ودروسه المعاصرة حين تندلع الحروب أنها لا تتوقّف إلا وفق مسارات أساسية ثلاثة؛ الأول: أن تتدخّل المنابر والهيئات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن، في إطار نقاش تداعيات الحرب الدائرة وتصدر قراراً، تحت البند السابع، يلزم الطرفين المتحاربين، بوقف القتال.
وهو، وإن كان احتمالاً قائماً من الناحية النظرية، لكنه في الحالة الإسرائيلية يبقى ضعيفاً جداً خاصة في ضوء استظلال “إسرائيل” بظلّ التغطية والدعم الأميركيّين اللامتناهيين لها بما ينسف إمكان صدور مثل هذا القرار حالياً.
المسار المتاح الآخر لوقف الحرب، ولو نظرياً كذلك، هو أن تتدخّل القوى العظمى لفرض إرادتها على الطرفين المتصارعين لإجبارهما على وقف القتال، على قاعدة أن لا مصلحة لهذه القوى باستمرار القتال. ويبدو جلياً بعد أكثر من سنة على هذه الحرب التدميرية أن لا أحد دولياً أمكنه أو يمكنه أن يتدخّل فعلياً لفرض إرادته، وتحديداً على الطرف الإسرائيلي، لإلزامه بوقف القتال، إلا الولايات المتحدة الأميركية التي يبدو أنها ليست معنية بهكذا مسار حتى اللحظة. ورغم أن إدارة بايدن، لطالما ردّدت على امتداد الحرب بأنها تريد إنهاءها، إلا أنها لم تلجأ إلى هذا الخيار خلال سنة ونيّف من عمر الحرب الدائرة، وتحديداً على قطاع غزة.
وبالتالي ليس من المُرجّح أنها ستلجأ إليه اليوم خاصة بعد أن تحرّرت من قيود وضغوط الانتخابات الرئاسية بعد فوز ترامب. وشواهد تصريحات وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشارها للأمن القومي التي ما زالت تذهب إلى اتهام حماس برفض الصفقة وتعطيلها بما يمنع إنهاء الحرب، خير دليل على أن الإدارة الأميركية الحالية فيما تبقّى لها من فترة ولايتها لحين تنصيب الرئيس ترامب، لن تمارس ضغطاً أياً يكن على “إسرائيل” لوقف الحرب، إذ إنّ الرئيس بايدن الذي ما زال يُصرّ على أنه “ليس من الضروري أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً”، لن يختم حياته السياسية بوصمة إرغام “اسرائيل” على فعل ما لا تريده حتى وإن لم يعد بحاجة إليها لا على صعيده الشخصي ولا على صعيد حزبه، على أقلّه مرحلياً.
أما المسار الثالث والأخير الكفيل بوقف العدوان التدميري الدائر على غزة ولبنان فهو أن يفرض أحد الطرفين المتقاتلين إرادته وشروطه على الطرف الآخر بعد أن يوقع به هزيمة عسكرية في الميدان بمنطق القوة النارية بحيث يجرّه إلى طاولة المفاوضات وفق اشتراطاته. وهذا المسار وإن بدا للبعض بأنه ممكن التحقّق روايةً وفق التمنيات والسردية الإسرائيلية، لا يبدو خياراً واقعاً يلوح في الأفق القريب وفق صيرورة الفعل الميداني في جبهتي المواجهة الجنوبية والشمالية، وبالأخص مع حزب الله بسبب اختلاف موازين القوى وطبيعة الجغرافيا وغيرها مما لدى لبنان وليس لدى غزة ومقاومتها.
فحالة المراوحة التي تعيشها المواجهة بين كرّ وفرّ وتصعيد تدريجي لا يبدو أنها كسرت حتى اللحظة إرادة القتال لدى حزب الله أو دفعته للتنازل عن مواقفه المبدئية بأيّ حال، خاصة بعد تعافيه من عمليات البيجرز والاغتيالات واستعادته زمام المبادرة والفعل، وتمكّنه من إيقاع مزيدٍ من الخسائر في صفوف “الجيش” الإسرائيلي في إطار المواجهة البرية، وفي إطار استهداف الداخلي الفلسطيني المحتلّ بالصواريخ والمسيّرات، وبالتأكيد تَمكُّنه من منع “إسرائيل”، حتى اللحظة، من تحقيق أهدافها المُعلنة بإعادة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم وفرض الفصل بين جبهتي غزة ولبنان.
ومع قناعتنا بحدوث تغييرات بنيوية في المجتمع الإسرائيلي تجعله أكثر احتمالاً للخسائر وصبراً عليها بعد مرور أكثر من عام على هذه الحرب، فإن مدى مقدرة “إسرائيل” وجبهتها الداخلية على استمرار احتمال حرب الاستنزاف القاسية هذه، ليس مرتبطاً فقط بحجم وسقوف الأثمان التي يجيبها حزب الله والمقاومة الفلسطينية منها في جبهة الميدان والمواجهة العسكرية، إنما هو مرتبط بالضرورة، وبشكل متوازٍ كذلك، بمدى ارتداد هذه الأثمان سلباً على الداخل الإسرائيلي بحيث تصل به إلى نقطة تُحوّل مزاجه العام وتقلبه ضدّ سردية الحرب المفتوحة التي يشنّها نتنياهو، بما يُفقده التضامن والشرعية الداخلية التي سهّلت مهمته في إدامة هذه الحرب حتى اللحظة.
ومع وجود بعض الأصوات الخجولة الناقدة والمُحتجّة في الداخل الإسرائيلي، التي تطرح تساؤلات حول جدوى الحرب وإمكان تحقيق الأهداف الإسرائيلية وعلى رأسها إعادة مستوطني شمال فلسطين المحتلة إلى مستوطناتهم وإعادة الأسرى الإسرائيليين من قبضة المقاومة في غزة، عبر استدامة الحرب التدميرية، إلا أن هذه الانتقادات التي تتصاعد وتيرتها ببطء بالتوازي مع تصاعد الاستنزاف الداخلي الإسرائيلي، لم تُترجم حتى اللحظة إلى حراك واحتجاجات كبيرة جارفة في الجبهة الداخلية الإسرائيلية بحيث تُشكّل كابحاً لانفلات حكومة نتنياهو نحو الحرب، أو على الأقل تُضيّق على نتنياهو مساحة المناورة والتحرّك. فما زال الشارع الإسرائيلي “هادئاً ومنضبطاً” رغم الاستنزاف في جبهتي الشمال والجنوب، ورغم ورقة الأسرى الإسرائيليين التي وظّفتها المقاومة في قطاع غزة، بشكل ذكي ومتقن، لتحريك الشارع الإسرائيلي والتأثير فيه بشكل كبير في محطات مختلفة من هذه الحرب.
ولا شكّ بأن صبر المجتمع الإسرائيلي ليس مرتبطاً فقط بالتغييرات البنيوية التي طالته منذ السابع من أكتوبر 2023، بل للأمر علاقة مباشرة بطبيعة النظام القمعي الحاكم في “إسرائيل” الذي يمارس إرهاباً وقرصنة منظّمة تجاه كلّ من ينتقد أو يخالف موقف الحكومة، وهذا ما كشفته صراحةً التحقيقات الجارية في أكثر من ملف فساد وتسريب وسرقة وابتزاز في مكتب نتنياهو، والتي يرجّح أنه ضالعٌ فيها شخصياً، ناهيك عمّا كشفته وسائل إعلام العدو عن سلوك بن غفير ومستشاريه في وزارة الأمن القومي، التي شبّهها بعض الإعلاميين الإسرائيليين بسلوك عصابات الإجرام.
إذاً، فمهمة تحريك الداخل الإسرائيلي وقلب مزاجه، بالتوازي مع الاستنزاف في الميدان، حيوية ومطلوبة لتقصير عمر هذه الحرب وربما إنهائها، لكنها ليست مهمة سهلة أمام إحكام نتنياهو وحكومته القبضة على “الدولة” والمجتمع، ما يعني أن خيار حزب الله، وربما المقاومة في غزة، يجب أن ينصبّ على رفع الأثمان التي يجبونها من “إسرائيل” وجبهتها الداخلية بما يكسر سقوف الأثمان التي وطّن المجتمع الإسرائيلي نفسه على تَحمّلها حتى اللحظة.
بمعنى آخر، في حال أراد الحزب أن يُغيّر في إرادة القتال لدى نتنياهو وحكومته، مع غياب إمكان تدخّل أطراف إقليمية أو دولية لوقف الحرب، لا يبقى إلا الرهان على مسار “الإيلام” ورفع تكلفته بما يفوق مقدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمّله، ويبدو أنّ هذا هو الخط التصاعدي الذي يكرّسه الحزب يومياً عبر تصعيد النار والمديات والأهداف، فهل نسمع صراخاً إسرائيلياً قريباً!
الميادين نت