كتب

الصهيونيّة المسيحيّة… هكذا أسهمت في احتلال فلسطين

كان العديد من المؤرّخين الأوائل للصهيونية عمياناً عن تاريخها أو رافضين لأيّ دور تأسيسي في التاريخ الصهيوني. ومن المفارقات، أن التأريخ الصهيوني الراسخ قد هيمن عليه المؤرّخون الذين انزعجوا من الاقتراح القائل إن الدين، يهودياً أو مسيحياً، كان حاسماً على أي نحو في تأسيس كيان العدو الصهيوني الاستعماري الاستيطاني. لقد تغيّرت النظرة الخاطئة تلك، ذلك أن نتنياهو صرَّح مراراً وتكراراً بأن الدعم المسيحي الصهيوني كان حاسماً في تأسيس الكيان في عام 1948. لكنّ وجهة نظر نتنياهو كانت بمثابة هرطقة لمؤرّخي الصهيونية الأوائل، وكتاب «تاريخ مختصر للصهيونية المسيحية» (i.v.p academic ـــ 2020) لدونالد أم. لويس، يأمل في شرح دور هذه الحركة ودوافعها وتأثيرها.

قد يرى بعضهم في كون الصهاينة المعاصرين الأوائل مسيحيين مفارقة. لكنّ هذا مفهوم بالنظر إلى أن التقليد التلمودي عارض منذ فترة طويلة أي نزعة صهيونية. بعد عام 70، فسّر التلمود البابلي (Ketubbot 111A) أول نسختين من نبوّات بنات أورشليم الثلاث (نشيد الإنشاد 2: 7 ؛ 3: 5 ؛ 5: 8) على النحو التالي: تنطوي على مهمتين تم تكليفهما للشعب اليهودي. الأولى منع «اليهود» من «العودة» إلى فلسطين «كجدار»، الثانية نهت عن التمرد على الأمم التي تفرّقوا فيها. فالتقليد الحاخامي الطويل الأمد ركّز على الأمل المسيحاني وتوقّع «عودة يهودية» في نهاية المطاف إلى صهيون على يد المسيح وحده. لقد عارض الحاخامات التكهّنات المروّعة، فمنعوا «اليهود» من «الدفع بها» أو حتى حسابها. إله التوراة يهوه فقط سيختار المسيح في وقته، وأي نشاط بين البشر للتدخل في هذه العملية، كان بدعة يجب إدانتها ومعاقبتها. كانت الأقلية الطليعية من الحاخامات الذين اجتمعوا في عام 1845 في فرانكفورت أم ماين على أمل تكييف الطقوس والمعتقدات اليهودية مع العصر الحديث، على استعداد للتخلي عن الآمال التقليدية للمسيح الشخصي؛ بالنسبة إليهم «على اليهود أن يفدوا العالم بدلاً من انتظار أن يفديهم المسيح. فهم لم يعتقدوا أن الخلاص يمكن تحقيقه باللجوء إلى غيتو يهودي في فلسطين، بل يجب أن يسعى اليهود إلى التشتّت «في كل أرض في العالم حتى تعترف كل أمة بإله واحد بمفردها، وفقاً للتقاليد اليهودية النقية». كما لاحظ كريستوفر سايكس في منتصف القرن التاسع عشر «في ألمانيا ظلّ تأثير موسى مندلسون التمثّلي (assimiation) وأتباعه قوياً: كان الشغف بالانضمام إلى حضارة الغرب أقوى بين اليهود الألمان من أي شعور بالغضب أو الغضب».

نظراً إلى غياب عمل جامع عن تاريخ الصهيونية-المسيحية، يحاول هذا الكتاب بالتالي تحقيق فهم شامل لظاهرة الصهيونية المسيحية، يأخذ تاريخها وعلم اللاهوت والسياسة على محمل الجدّ، من خلال فحص صعودها في أعقاب الإصلاح البروتستانتي، وتتبّع تطورها وتغيّراتها بمرور الوقت، وتقويم تأثيرها في العالم الحديث. نهجُ الكاتب المستخدم ترتيب زمني يبدأ بالمواد الكتابية، الكنيسة الأولى، ثم ينتقل إلى العصور الوسطى ثم الإصلاح، لكنه يركز بعد ذلك على التطورات في إنكلترا البروتستانتية، وأميركا الاستعمارية، والإنجيلية البريطانية في القرن التاسع عشر، مع إيلاء اهتمام خاص لتأثير التقوى الألمانية. يتعامل القسم الأخير مع الطرق التي تحولت بها الحركة في القرنين العشرين والحادي والعشرين وتتوسع الآن بسرعة في العالم غير الغربي حيث انتقل مركز المسيحية من شمال المحيط الأطلسي إلى الجنوب العالمي.

لكنّ الصهيونية المسيحية واجهت اعتراضات قوية يلخّصها الكاتب في ثلاثة اتجاهات مختلفة: المجموعة الرئيسة الأولى من هؤلاء النقاد هم اللاهوتيون المسيحيون الفلسطينيون، ولا سيما نعيم عتيق ومتري راهب، اللذين وجدت كتاباتهما دعماً كبيراً بين المسيحيين العرب وبعض الكنائس البريطانية والأميركية الرئيسة. التركيز التنظيمي لهذه المجموعة هو مركز «سبيل» للتحرير المسكوني في القدس.

نشر نعيم عتيق، الكنسي السابق لكاتدرائية القديس جورج الأنغليكانية في القدس، كتابه «العدل وفقط العدل: لاهوت التحرير الفلسطيني» (Justice, and Only Justice: A Palestinian Theology of Liberation) في عام 1989 ويبدأ بتأريخ مأساة عائلته. ولد نعيم عتيق عام 1937، وهو ابن لرجل أعمال أنغليكاني فلسطيني، ونشأ في قرية بيسان العربية التي طردت العصابات الصهيونية سكانها جميعاً وهجّرتهم إلى بيت لحم.

مع أن عتيق بدأ في تطوير لاهوته عن الأرض في الكتاب المقدس، إلا أنّ سرداً أكثر كمالاً ونضجاً يمكن العثور عليه في الفصل الرابع من كتابه «صرخة فلسطينية مسيحية من أجل المصالحة» (2007) بعنوان «الكتاب المقدّس والأرض». محور حجته أنّ هناك لاهوتيات مختلفة للأرض في العهد القديم، وبينما يكون الاعتراف بها مفيداً، من المهم تقدير المسار بعيداً عن الفهم الإقصائي لها، وعلى المسيحيين أخذها في الاعتبار في ضوء العهد الجديد وتصفية روايات العهد القديم «التي تعكس رسالة المسيح الشاملة وغير العنيفة». بذلك، فإنه يفضل سفر يونان باعتباره «معياراً يجب أن يُقاس عليه لاهوت العهد القديم». وهو يعتبر نصوصاً مثل إشعياء 43: 1-4 و62: 5-6 التي تؤكد تفرد يعقوب وإسرائيل «ضيقة وعنصرية» ووجبت تنحيتها جانباً في محاولة «لنزع الصهيونية» من هذه النصوص.

طوّر عتيق فكره عن الأرض وسط إدراك أن القضية الحاسمة في قلب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هي قضية وعود الأرض. لقد كان يطرح قضيته منذ أوائل الثمانينيات، وحجته تتماشى مع الانتقادات البروتستانتية الليبرالية للصهيونية المسيحية. وقد ركّز على نحو خاص على كلمات يسوع في متى 5: 5 «طوبى للودعاء لأنهم سيرثون الأرض»، ويجادل بأن يسوع المسيح يعبّر عن فهم جديد للأرض حيث «تصبح أرض فلسطين الصغيرة أنموذجاً أولياً أو أنموذجاً للأرض. لقد خلق الله الأرض مسكناً للودعاء». وفي تفسيره للقاء يسوع مع نثنائيل في يوحنا 1: 43-51، يؤكد أنّ الهدف من إجابة يسوع هو الإشارة إلى أن «ملائكة الله كانوا يصعدون وينزلون ليس على الأرض [كما في تكوين 28: 12- 14]، بل على ابن الإنسان». ويضيف: «من منظور مسيحي، إن الأمر المهم الانتماء إلى ملكوت الله وليس ميراث أرض معيّنة. فلم يعد للأرض أي أهمية في العهد». وقد طوّر حجته من عدة إشارات إلى فقرات في رسائل بولس (رومية 4:13؛ غلاطية 3: 15-18؛ أفسس 2: 19-20). انطلاقاً من هذه الأسس، استند إلى سفر يونان على وجه الخصوص للتعبير عن لاهوت التحرير الفلسطيني المسيحي.

قادت منظمة «سبيل» التي أسّسها عتيق في عام 1989 الأنشطة التي تهدف إلى مواجهة الصهيونية المسيحية، بما في ذلك المؤتمرات الدولية التي عُقدت في القدس وكان لها تأثير كبير في الأوساط البروتستانتية الأميركية الرئيسة، ولا سيما دعوتها عام 2004 للاستثمار المسؤول أخلاقياً، وقد سعت إلى إقناع الطوائف المسيحية بتبني الخيار السلمي المتمثل في سحب الاستثمارات من «الشركات التي تعمل داخل الأراضي المحتلة (بما في ذلك المستوطنات) والتي تستفيد من ظلم الفلسطينيين واضطهادهم». وفي عام 2004، عقدت مؤتمراً بعنوان «تحدي الصهيونية المسيحية» استقطب النقاد الصريحين للصهيونية، بمن في ذلك كبار الإنجيليين في الولايات المتحدة وإنكلترا، إلى جانب مجموعة متنوّعة من النقاد غير الإنكليز للمسيحية الصهيونية. نتج عن المؤتمر مؤلّف بعنوان «تحدي الصهيونية المسيحية: اللاهوت والسياسة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني» (2005). منذ عام 2010 ، نظّم الإنجيليون الفلسطينيون اجتماعات كل سنتين خاصة بهم في مؤتمرات «المسيح عند الحاجز» في «كلية بيت لحم للكتاب المقدّس»، التي تهتم أكثر بتحدي الصهيونية المسيحية الأميركية (خاصة في أشكالها التدبيرية) بين زملائهم الإنجيليين، بدلاً من التأثير في سياسات الاستثمار والمواقف السياسية للكنائس الرئيسية.

تتكوّن المجموعة الثانية من النقاد من المفسّرين الإنجيليين للكتاب المقدس الذين كانوا يشكّكون في الأساس الكتابي للصهيونية المسيحية. من الممكن فقط تسليط الضوء على عدد قليل من العلماء الأكثر نفوذاً في هذا الاستطلاع.

اعتمد عتيق على كريستوفر جي إتش رايت في صياغته لاهوت الأرض. حصل رايت على الدكتوراه في كامبريدج عن الأخلاق الاقتصادية للعهد القديم. استند كتابه الأول إلى أطروحته «شعب الله في أرض الله: العائلة والأرض والملكية في العهد القديم» (1990). أصبح رايت مؤثراً رئيساً دفع كثيرين إلى إعادة التفكير في الصهيونية المسيحية. كان رايت صديقاً مقرّباً وشريكاً للراحل جون آر دبليو ستوت (يمكن القول إنه أحد أكثر الإنجيليين نفوذاً في العالم خلال نصف القرن الماضي). أصبح رايت مدير International Ministries Director of the Langham Partnership International) التي أسّسها ستوت في عام 2001، وقد منحته دوراً مهماً في التبشير العالمي. يعارض كل من ستوت ورايت بشدة الصهيونية المسيحية.

يمكن القول إنّ أشهر العلماء الإنجيليين الذين شكّكوا في الصهيونية المسيحية هو إن تي رايت (Nicholas Thomas Wright) الذي جادل بأن بركات العهد الإسرائيلي قد تم نقلها إلى الكنيسة المسيحية ككل؛ فالمسيح هو نفسه إسرائيل الجديدة، والذين «في المسيح/ in Christ» يشكلون إسرائيل الجديدة. هكذا تم محو العلامات القديمة للهُوية اليهودية أو عولمتها. وهو يرى أنه من خلال الملكية الداودية (المسيح)، تم تعميم وعود «العالم كله» الواردة في مزمور 2 ومزمور 72 دعماً لحجة بولس الرسول في رومية 4 ومرة ​​أخرى في رومية 8 بأن المؤمنين يجب أن «يرثوا العالم»، حيث لم تعد الأرض بحد ذاتها ما سيتم توريثها، بل الخليقة المتجدّدة بأكملها. كما جادل رايت على نحو أكثر وضوحاً: لا يمكن ولا يجب أن يكون هناك لاهوت «مسيحي» لـ «الأماكن المقدّسة» (على غرار أو تشبيه «الأماكن المقدسة» لدين له أساس جغرافي أساساً) ، أي أكثر مما يمكن أن يوجد أن يكون لاهوتاً «مسيحياً» يقوم على التفوق العنصري على أنموذج أو تشبيه لدين له أساس عرقي أساس. إلى هذا الحد، فإن «الصهيونية المسيحية» هي المعادل الجغرافي للفصل العنصري «المسيحي» المنفصل، ويجب رفضها على هذا النحو.

ينهي الكاتب عمله المهم بتأملات: تطرق هذا المؤلف إلى العديد من الحركات ووجهات النظر المعقّدة والمثيرة للجدل التي يصعب تتبّعها وفهمها. تتمتع هذه الحركات بجاذبية شعبية قوية للعديد من الدوائر المتنوعة في جميع أنحاء العالم ولها أهمية كبيرة، إذ تؤثر في العلاقات اليهودية المسيحية، والسياسة الدولية، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، والقائمة تطول وتطول. من نواحٍ كثيرة، تعتبر الصهيونية المسيحية حركة معاكسة للثقافة بشكل عميق لأنها ترفع الاهتمامات الدينية إلى الساحة العامة بطرق تتعارض مع الأنماط المتوقّعة للمجتمع العلماني، ذلك غالباً ما يجعل الناس غير مرتاحين وليس فقط المسيحيين، ولكن أيضاً اليهود والعلمانيين. وقد جادل هذا المؤلّف بأنه إذا كان يجب أن يؤخذ على محمل الجد، يحتاج المرء إلى الانتباه إلى اللاهوت والديناميكيات الثقافية التي تُعلّمه وتلهمه.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى