فن و ثقافة

عبّاس محمود العقّاد وأدب العبقريّات

من بين مؤلّفاته الكثيرة التي فاقت المائة، عرف الأديب المصريّ عبّاس محمود العقّاد (1306-1383هـ/1899-1964م) واشتَهر بكُتب العبقريّات، وبات يكنّى بها فيُقال له صاحب العبقريّات وصاحب أدب العبقريّات، وهي مجموع المؤلّفات التي حملت في مُفتتح عناوينها كلمة “عبقريّة”، وجاءت مقترنة بالحديث عن شخصيّات ينتمي معظمها إلى المجال التاريخيّ الإسلاميّ.

تراوحت هذه المؤلّفات ما بين خمسة إلى سبعة، حصل هذا التردّد نتيجة ما حدث من تغيّر في عناوين بعض هذه المؤلّفات ما بين طبعاتها الأولى وطبعاتها التالية، وتعلّق هذا الأمر تحديداً بكتابَين، الأوّل كان حول الأديب الألماني الشهير غوته (1749-1832م) إذ صدر في طبعته الأولى سنة1932م بعنوان “تذكار جيتي”، وفي طبعة أخرى حمل عنوان “عبقريّة جيتي”، والثاني كان حول السيّد المسيح صدر في طبعته الأولى سنة 1953م بعنوان “عبقريّة المسيح” وهو آخر مؤلّفات العبقريّات، وفي طبعة أخرى حمل عنوان “حياة المسيح”.

إذا أخرجنا هذَين الكِتابَين من قائمة كُتب العبقريّات، يصبح أدب العبقريّات عند العقّاد مُنحصراً بالشخصيّات الإسلاميّة وبالمجال التاريخي الإسلامي دون سواه، ومتحدّداً في خمسة مؤلّفات بحسب تعاقبها الزمني في الصدور هي: “عبقريّة محمّد”، و”عبقريّة عمر” الصادران سنة 1942م، و”عبقريّة خالد” الصادر سنة 1945م، و”عبقريّة الإمام” الصادر سنة 1949م، وأخيراً “عبقريّة الصديق” الصادر سنة 1951م.

لا أدري إن كان هذا التغيّر الحادث في الكتابَين السابقَين من جهة العنوان، جاء مقصوداً لكي تتحدّد العبقريّات وتنحصر في الشخصيّات الإسلاميّة وتعرف بهذا المجال، أم أنّه حدث من غير قصد، وعلى الحالتَين سواء بقصدٍ أم بغير قصد، فالنتيجة هي انحصار العبقريّات بالشخصيّات الإسلاميّة.

أراد العقّاد من كُتب العبقريّات أن يصبح صاحب أدب متفرّد يُعرَف به، ويصكّ باسمه، ويتفارق به عن غيره ويتمايز، متَّبعاً منهجاً حديثاً في دراسة الشخصيّات لم يكُن مألوفاً كثيراً بين أقرانه ومُعاصريه، وكان بارعاً فيه، محقِّقاً إنجازاً بات يؤرَّخ له ليس في تاريخ تطوّر الأدب المصري الحديث فحسب، وإنّما في تاريخ تطوّر الأدب العربي الحديث أيضاً.

ويُفهم من نصوص العقّاد أنّه أراد من العبقريّات، فكرةً ومنهجاً، الالتزام بأمرَين مُتلازمَين هما:

الأمر الأوّل: له علاقة بالمنهج، ويتحدّد في المفارقة بين المنهج التاريخي والمنهج النفسي، إذ يرى العقّاد أنّه ليس بصدد اتّباع المنهج التاريخي القائم على السرديّات والحوليّات، وتعقّب الحوادث والأخبار، وإنّما هو بصدد اتّباع منهج آخر يُعرف بالمنهج النفسي، ويُراد منه رسم صورة نفسيّة لصاحب السيرة، تجلو من خلالها الخلائق والصفات وبواعث الأعمال، وليس كتابة تاريخ يجري فيه سرد الحوادث وتعقُّب الوقائع بما هي وقائع، وتتبّع الأخبار بما هي أخبار. وقد ظلّ العقّاد يفرِّق في كِتاباته بين الدراسات التاريخيّة التي يُعنى بها المؤرِّخ، وبين الدراسات النفسيّة مثل دراساته التي يُعنى فيها بخلائق صاحب السيرة ومناقبه.

الأمر الثاني: له علاقة بالخطاب، ويتحدّد في المفارقة بين الخطاب الذي يتّجه إلى إنسانٍ بعَينه كالإنسان المُسلم، وبين الخطاب الذي يتّجه إلى كلّ إنسان. فالعقّاد أراد أن يقدِّم أدباً لا يُخاطِب به المُسلم ولا يتوجَّه إليه فحسب، وإنّما يُخاطب به كلّ إنسان يدين للعبقريّات بالاحترام والتقدير والإعجاب أينما ظهرت في أيّ زمان ومكان، بما تمثّله هذه العبقريّات من مَناقب وفضائل وأخلاقيّات ومثل وإنجازات يتوق إليها الناس كافّة، ويتعلّقون بها حبّاً وإعجاباً.

هذه الحكمة المزدوجة

وقد كشفَ العقّاد عن هذه الحكمة المزدوجة، حين تحدَّث عن كِتابه “عبقريّة محمّد”، الذي هو من بواكير أدبه في العبقريّات، شارِحاً منهجه قائلاً: إنّ “عبقريّة محمّد عنوان يؤدّي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعدّاها، فليس الكِتاب سيرة نبويّة جديدة تُضاف إلى السيَر العربيّة والإفرنجيّة… إنّما الكِتاب تقدير لعبقريّة محمّد بالمقدار الذي يدين به كلّ إنسان ولا يدين به المُسلم وكفى، وبالحقّ الذي يثبت له الحبّ في قلب كلّ إنسان، وليس في قلب كلّ مسلم وكفى، فمحمّد هنا عظيم لأنّه قدوة المُقتدين في المَناقب التي يتمنّاها المخلصون لجميع الناس، عظيم لأنّه على خلق عظيم”.

ولاحقاً اعتبر العقّاد أنّه صاحب مذهب في هذا اللّون من الأدب، مُطلقاً صفة المذهب منسوبة إلى ذاته، لافتاً الانتباه لهذا المعنى عند حديثه عمّا يتوخّاه من العبقريّات في مقدّمة كِتابه “عبقريّة الصديق” قائلاً: “ومذهبنا الذي نتوخّاه في الكِتابة عن العظماء الذين حسنت نيّاتهم في خدمة الإنسان، أن نوفيهم حقّهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التجلّة”.

وفي زمنه كان العقّاد يحسب أنّ الالتزام بهذا المذهب أوجب ممّا كان في الأزمان الغابرة، وذلك بعدما تكاثرت في نظره الأسباب التي تغضّ من وقار العظمة منذ القرن الثامن عشر، وتَحدث في بعض الأحيان عفواً، وقصداً في أحيان أخرى، الوضع الذي وجد فيه العقّاد أنّ العظمة في حاجة إلى ما يسمّى في لغة القانون بردّ الاعتبار.

بهذا يتكشَّف لنا أنّ العقّاد يُعدّ من أكثر الأدباء العرب المُعاصرين تنبّهاً لفكرة العبقريّة، وأكثرهم كذلك توظيفاً لها في الأدب واستثماراً، وتحديداً في أدب السير والتراجم، كما أنّها الفكرة التي مثَّلت نموذجاً تفسيريّاً لهذا النسق من الكِتابات، واكتسبت صفة العلامة الدالّة ثقافيّاً في أدبه، وجاء اختياره لها كونها من الكلمات المحتفى بها على المستوى الإنساني، باعتبارها تُبرز جوانب العظمة والتفوّق، وتُثير الدهشة والإعجاب، وأراد منها العقّاد أن تكون مدخلاً لتقديم بعض الشخصيّات الإسلاميّة إلى الأدب الإنساني بعامّة.

مع ذلك لم يسلم العقّاد من النقد في تبنّي هذه الفكرة، النقد الذي أخذ صورة التشكيك والاعتراض؛ والمُفارَقة أنّه جاء من أشخاص ينتمون إلى المجال الفكري الإسلامي، حيث اعتبروا أنّ العقّاد نقل فكرة العبقريّة من المجال الأدبي والفكري الأوروبي متأثّراً، وطبَّقها بطريقة متعسّفة في مجال دراسة الشخصيّات الإسلاميّة.

وأشار إلى مثل هذا الرأي الكاتِب الفلسطيني غازي التوبة، وشَرحه في كِتابه “الفكر الإسلامي المُعاصر.. دراسة وتقويم” الصادر سنة 1969م، مُعتبراً أنّ العقّاد قد تأثَّر ببعض الاتّجاهات الفكريّة الأوروبيّة التي تضخِّم الفرد، وتُبالغ في المواهب الفرديّة، جاعلاً من عبقريّاته حقلاً لتطبيق نظريّاته في الفرد، وشاهداً على دَوره الفعّال في المجتمع والتاريخ، متعسّفاً على الحقيقة في عبقريّاته الإسلاميّة، لأنّه أراد أن يُقولب الشخصيّات الإسلاميّة من ضمن نظريّاته الجاهزة في الفرد والطبائع الفرديّة، فجاءت هذه التطبيقات في نظر التوبة جملة من الفتوق في الغالب، وحزمة من المزوق في الشخصيّة.

وأشار إلى مثل هذا الرأي كذلك مُتطابقاً مع سلفه ومتناغماً، الكاتِب المصري أنور الجندي (1335-1422هـ/1917-2002م)، وشَرحَه في كِتابه “جيل العمالقة والشوامخ في ضوء الإسلام”، ناظراً إلى أنّ العقّاد بدأ عمله في العبقريّات بمنطلق غربي محض، تحدَّد في فكرة العبقريّة التي تداولتها كِتابات الغربيّين شوطاً طويلاً معبّرين عن نَوع من الامتياز أو الذكاء في مجالات الفنّ والموسيقى والشعر والقصّة، ساحباً هذه الفكرة إلى المجال الإسلامي، واصفاً بها النبي المؤيَّد بالوحي، وكذا العظماء من الصحابة من دون تفرقة بين النبيّ والصحابيّ.

المُلاحَظ أنّ هذه الآراء عبَّرت عن وجهة نظر تُغاير ما كان يصبو إليه العقّاد، وتُفارِق منهجه الذي أراد منه مُخاطبة الأدب الإنساني، معرِّفاً الشخصيّات الإسلاميّة بطريقته الخاصّة التي أراد أن يستقلّ بها، مستوحياً حكمتها من فكرة العبقريّة.

قد يكون العقّاد في هذه الفكرة متأثّراً بالآداب الأوروبيّة، لكنّه كان واعياً بها ومتبصّراً، ومتفطِّناً لها ومُختبراً، ومتنبِّهاً لتجريباتها الممتدّة زمناً، والعابرة لشخصيّات عدّة، مُنجزاً أثراً عُدَّ من آثاره التي لا تُمحى.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى