الغضب الفالت والغضب العاقل
الغضب الفالت والغضب العاقل… غضب في أميركا وأوروبا على روسيا بسبب عمليتها العسكرية ضد النظام الموالي للأميركيين في أوكرانيا. وللغضب الأميركي علامات ومظاهر. وهو يعكس طريقة التفكير، ويعكس القدرة وهامش الحركة أيضاً. في حالة الدول الضعيفة أو القوى غير الحكومية أو المجموعات الحزبية أو الأفراد، ينزل الغضب الأميركي ضربة قاتلة في لحظات. لا حاجة لأميركا إلى أن تسأل أو تستأذن أحداً، لا مجلس أمن ولا أمم متحدة ولا ناتو ولا قضاء ولا من يحزنون. وهي تفعل ذلك، لأن تقدير رد الفعل على غضبها يكون حاسماً في أن المقابل تحت السيطرة.
في حالات أخرى، يتمظهر الغضب الأميركي على شكل خطوات يصفها البعض بـ«المدروسة والعاقلة». وفي هذه الحالة. تكون أميركا نفسها، قد قدرت أن أي رد فعل على غضبها ستكون له أثمان تصيب مصالحها مباشرة، قبل أن تحسب حساب الحلفاء في أي مكان من العالم. وفي هذه الحالة، تظهر «العقلانية» و«الحسابات» على شكل الإعلانات المتكررة عن الاتصالات والمشاورات الجارية مع «أركان المجتمع الحر».
طبعاً، لا يمكن للغضب الأميركي أن يقتصر على الكلام فقط. هذا لو حصل يوماً ما، فسيكون بمقدور أهل المكسيك تجاوز الحدود والبدء باحتلال الولايات واحدة تلو أخرى. العقوبات الاقتصادية، والتشهير الجرمي بحق الخصوم، والحصار بكل أشكاله، والحملات الإعلامية، هي تحصيل حاصل في العقل العقابي الأميركي. لكن، عندما يقتصر الأمر على ذلك، فهذا يعني أن الضربة العسكرية غير متاحة… أقله في هذه اللحظة.
اليوم، نراقب مستوى من الغضب الأميركي (وتاليا الأوروبي) من النوع «العاقل والمحسوب». صحيح أن روسيا قالت بلسان رئيسها إنها مستعدة للأسوأ. إلا أن هذا الاستعداد ليس بالضرورة عنصراً كافياً للردع. بل هو في حدّه المنطقي إعلان الاستعداد للذهاب الى أبعد من المستوى القائم من الحرب الآن. وصحيح أيضاً أنه لا وجود في أوكرانيا لقوة قادرة على مواجهة الجيش الروسي. لكن الأهم هو أن الصنف «العاقل والمحسوب» من الغضب الأميركي يأخذ في الاعتبار أن توسع دائرة المواجهة قد يقود الى خسائر تتجاوز احتواء الروس للموقف الأوكراني أو إطاحة الحكم هناك. العقل والحساب الأميركي، هنا، ينظر بالضبط الى العناصر الواقعية التي جعلت فلاديمير بوتين يقرر إطلاق العملية العسكرية.
في هذا الإطار، من المفيد مراجعة ما سرّبته المصادر الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية طوال أسبوعين. هؤلاء الذين كانوا يجزمون بأن الحرب واقعة، ولم يكونوا يستندون فقط الى تعنت «زلمتهم» في كييف، ولا الى التحشيد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا، بل، أولاً وأخيراً، الى معطيات يملكها الأميركيون حول بروز عناصر جديدة تتيح لبوتين السير في الخيار العسكري.
وعلى قياس الموقف الأميركي، لنأخذ كل المواقف التي صدرت وتصدر عن أطراف حلف الناتو، وعن العواصم الغربية وعن المنظمات والهيئات بكل أصنافها، وخصوصاً غير الحكومية، حيث تباشر ماكينة جورج سوروس تحصيل الفواتير من كل الذين موّلهم خلال ثلاثة عقود، لأنه يخشى على النموذج الذي عمل على إنتاجه طوال عقود طويلة، وظن أنه بات راسخاً لا تهزه عاصفة ولا موقف، ولا يقدر أحد على إطاحته… وكل هؤلاء يرفعون الصوت، ولمن لا يريد أن يتعب نفسه في البحث، يكفي أن يعود الى أرشيف ثوار سوريا ولبنان والعراق ومصر وتونس وليبيا من الذين انتهى بهم المطاف الى حيث ما نسمعه اليوم من «الدمية» زيلينسكي، الذي يصرخ في البرية: ها أنا متروك وحدي… والعالم الحرّ يتركني فريسة الدب الأكبر!
لنقل إن زيلينسكي كان يراهن على أن الغرب سيردع روسيا ويمنعها من شن الحرب. هذا كل ما كان يقدر على قياسه، لأنه يعرف أن واقع بلاده العسكري والأمني والسياسي والجغرافي والاقتصادي لا يمكنه من مواجهة الروس. وهو يعرف أن في بلاده أكثرية لا ترغب به، حتى ولو كانت هذه الأغلبية لا تريد لروسيا أن تعود الى حكم أوكرانيا. لكن الرجل يستمد قوته من النفوذ والدعم الغربيين. وهو كان يأمل أن يشتمل هذا الدعم على توفير درع حماية عسكري يقيه شر القتال، وعندما بدأ يسمع أزيز الرصاص، توهم أن الجيوش الغربية بدأت الزحف لنجدته، وعندما اكتشف فجأة أنه موهوم أو مخدوع، صار يرفع الصوت صارخاً في وجه الغرب، ويرفع الصوت مستجدياً حواراً مع روسيا علّه يبقى في الحكم ولو مع تنازلات.
عملياً، يعلّمنا الدرس الأوكراني أن الغرب فيه عقل. عقل شرير انتهازي حاقد، لكنه ليس عقلاً جاهلاً، بل عقل يقيس الربح والخسارة. وفي حالتنا هذه، يجد الغرب نفسه أنه أمام خيارات ضيقة جداً. فالغضب المطلق يدخله في مجهول ليس معروفاً منه سوى الموت والدمار. أما الغضب العاقل والمحسوب، فيتيح له اللعب على التناقضات، علّه يحدّ من خسائره، ويتعلم من أجل المواجهة المقبلة.
السؤال المهم اليوم: كيف تيقّن بوتين من عجز الغرب عن التورط في مواجهة شاملة؟ وهل هو خيار مفتوح أم يقف عند حدود كييف؟ وهل يذهب بوتين الى أبعد مما يمنع عودة الغرب الى الغضب المطلق؟ تلك مسألة ساعات أو أيام لا أكثر.