فن و ثقافة

“القطار الأزرق” والخطف أماماً في التجريب والإبداع

حسني هلال

طوال عشرٍ طوال:

منذ سقطت في غيابة السجن،

دارت الأرض حول الشمس عشر دورات.

فإذا سألتموها قالت لكم:

“ليس من اسم لهذا الزمن الذي لا يرى بالمجهر”

وإذا سألتموني أجيبكم:

“إنها سنوات عشر من عمري”

في العام الذي دخلت السجن،

كان معي قلم رصاص

وظل يكتب ويكتب فـ فني في أسبوع،

“إنها حياة كاملة”

وإذا سألتموني أجيبكم:

“إنه أسبوع، فيا أيها الإنسان، لا تبالِ”.

الأسبوع حياة كاملة بالنسبة للقلم، وزمن قصير

بالنسبة للإنسان.. والسنوات العشر زمن

كبير قياساً إلى عمر الإنسان، لكنه زمن لا يرى

بالمجهر قياساً إلى عمر الكون..

***

ما سبق أعلاه، جاء على لسان الشاعر المكافح “ناظم حكمت”، في الصفحتين – 22 – 23 من كتاب الروائي المكافح أيضاً “حنا مينا”. “ناظم حكمت – السجن – المرأة – والحياة”.

أمَّا مناسبة تذكّري، وذكري هنا، هذين الأديبين العالميين المنافحين عن المعذّبين المظلومين، من شعبيهما وشعوب الأرض قاطبة. فيعود لقراءتي منذ أيام، رواية “القطار الأزرق” لمؤلفيها: (جمال الزعبي – سهيل الذيب – عماد نداف – فاتن ديركي – محمد الحفري – محمد الطاهر – والكاتب الأمريكي السوري الأصل مقبل الميلع).

الرواية التي تحكي على طريقتها، مقطعاً عمقياً من معاناة الشعب السوري، خلال الحرب الأفظع التي انتظمته من الجهات الست، والموبقات السبع، طوال عشر طوال! لقد أخذت الرواية ما أخذت، من خالص اهتمامي وإعجابي. وأعطت ما أعطت، لرصيد ثقتي براهن مستوى إبداعنا، وقادم قطار مستقبلنا!

القطار هو مستقبل سورية:

تذكرنا رواية القطار الأزرق، ضمن ما تذكرنا به, بغير عمل إبداعي، سبق لنا أن عرفناه. كمسرحية “المحطة” للأخوين رحباني، هذا لجهة المكان. وبرواية “بانتظار غودو” لـ صموئيل بيكيت، لجهة الترقب والانتظار: العملين اللذين أسعدني الوقوع على أثر لهما، في إحدى فراغين القطار الأزرق.

ومع المضي رويداً.. في قراءة الرواية، تتكشف لنا أشياء وأشياء. في طليعتها أن القطار الأزرق – الذي بتنا، كقراء، ننتظره مع المنتظرين، ونتلهّف لرؤية دخانه وسماع صفارته – إن هو، إلاّ مستقبل بلدنا “سورية”، الذي ننتظر، مع كل السوريات والسوريين، الشريفات والشريفين، وصوله، بالتزامن مع انتهاء الحرب.

ولن يغيب عن حسن فهمنا، أن المقصود هنا، ليس المستقبل بمعناه الزمني المجرّد البسيط، وإنما بمعناه الشامل الإيجابي، خاصة بعده الإنساني المرتجى.

فها هم مؤلفو الرواية، وأبطالها في الوقت عينه، يتوسمون القطار الأزرق، ويتيمنون أنه:

(الخلاص، والخلاص هو المستقبل ص 122)، حسب محمد الخليل.

و(أن نبقى معاً ص 147)، حسب جمال الزعبي ومقبل الميلع.

البساطة المدروسة والدقة الموحية:

تتسم لغة الرواية بالفصحى السهلة.. البساطة المدروسة.. الدقة الموحية.. وبالتكثيف غير المجحف. كوصف “عماد” صديقه “مقبل”:

(صمت للحظة، ثم أضاف، وكأنه يحتج على ما يحدث: هل سيحققون ثورة شعب، بهذه القذائف ص 16).

وسؤال الأخير له:

(كيف الصحافة عندكم؟

أو بالأحرى هل يوجد صحافة عندكم؟

هل تشعر أنك صحفي فعلاً؟ ص 17).

يسجل لصالح لغة الرواية. أنها بأقل مصروف من مخزون مفرداتها وبلاغتها، تضعك في خضم أجوائها. لا لتصور لك، أو لتخبرك.. بل لترى أنت بعينك وتسمع بأذنك، فتكون مشاهداً وشاهداً ومشاركاً في وقائعها ومجريات أحداثها. حتى لتحسك واحداً من شخصياتها، أوأقله، ترى نفسك في مرآة أفكارهم.

فما أقربنا من الإحساس بكابوسية الانتظار، ذاك الذي يوحيه لنا “عماد”، أكثر الوجوه مقابلة للقارئ، حين يقول: (مرّت لحظات أتذكرها الآن، وأتمنى لو أن أحداً صورها، وكشف عن تفاصيلها، فهي تكفي لشرح معنى الانتظار، ص 31).

وما أفصح وأوضح محمد الطاهر يروي مأساته، التي تتشابه.. تتناظر.. وقد تتقاطع مع مآسي سائر مؤلفي الرواية وأبطالها. كما لا تفترق كثيراً عن مآسي معظم السوريين، على مختلف جغرافية أعصابهم وأزمتهم..

بل يا لواقعيته حين يقول: (لا أحد منّا توقع ذلك الخراب والدمار اللذين خلفتهما الحرب. فأنا مثلاً عندما وصلت إلى دمشق هارباً من الرقة، تصورت أن مأساتي هي الأكبر في هذه البلاد. تصور نفسك تترك بيتك وملابسك، وجيرانك، وتهرب لتنجو من السيّاف. لكنني بعد أن رأيت مأساة الآخرين، أيقنت أن محنة البلاد كبيرة جداً، وأن مأساتي ومغادرتي إلى المجهول، هي جزء بسيط من مأساة الناس. ص 130).

ويا لرقيّ ونقاء وكياسة محمد الحفري مخاطباً “فاتن”، رفيقته في المحطة، عندما يقول لها: (معيبة منك ردة الفعل هذه، من يسمعك يظن أنني تحرشت بك، ثم إن إعجابي لن يضر بأحد. هو تعبير عن مشاعري فقط، ولستِ ملزمة بالقبول. ص 197).

السرد المُشْرع زماناً ومكاناً وأسلوباً:

لئن كان قد تشابه وتناظر المكان، في القطار الأزرق. حيث اجتمع المنتظرون في محطة للقطار في دمشق – أظنها محطة الحجاز – مع غيره من الأمكنة، في روايات مثل “ثلج الصيف” لنبيل سليمان. حيث اجتمع الأبطال/الركاب، في سيارة تكسي، قطعها تراكم الثلوج وتعطل المحرك في الطريق، ما بين دمشق وبيروت..

فهنا وهناك، المحطة والسيارة، هما مسرح الأحداث، الذي تجتمع فيه شخصيات العمل. من أماكن وبأسباب أساسية أو ثانوية، متباينة، وقد تكون متشابهة. بيد أن ما يقرب بين همومهم ويوحد أهدافهم، ولاسيما المباشر منها. هو المكان الذي فيه يحاصرون، والمؤثرات التي منها يعانون:

(لا يمكن لأحد أن يعرف بماذا يفكر كل واحد من هؤلاء المجتمعين، فهل ثمة مؤيد للنظام منهم؟ هل ثمة معارض؟ هل ثمة هارب من العدالة؟ هل ثمة قاتل؟ هل ثمة حكاية وراء كل واحد من الذين جمعتهم الأقدار في المحطة؟ ص 31).

ريادة في مهب الجدل:

معروفٌ أن في الأدباء، من جرب التشاركية في الكتابة، مع زميل له، مثل “عبد السلام العجيلي” و”أنور قصيباتي” في رواية “ألوان الحب الثلاثة”. و”جبرا ابراهيم جبرا” و”عبد الرحمن منيف” في رواية “خارطة العالم”. أولئك الذي تحضرني أسمائهم الآن وأزعم – وإن لا أحفظ  أسماء – إن ثمة مبدعين آخرين، في غير صنف ونوع أدبي وفنّي، قد جربوا ونشروا أعمالاً تشاركية، بصرف النظر عن نجاح تجاربهم تلك أوإخفاقها.

لكن ليس في حدود معرفتي أن هناك إبداعاً ما، قد تجاوز عدد متشاركيه الثلاثة. أمّا أن يصل عددهم إلى سبعة متشاركين، كما هو الحال في العمل قيد انطباعنا هنا “القطار الأزرق”. فلا شك أن في ذلك لشجاعة..

وتخطّي..

وريادة..

مثيرة للاهتمام والجدل.

إذ بقدر ما أنّ التشاركية في العيش، وسط عامة الناس، هامة وأساس، وتكاد تكون محايثة للإنسان، كونه مخلوقاً اجتماعياً. بقدر ما هي على غير ذلك، كي لا نقول على العكس، في ما يتعلق بالمشاريع الشخصية. ولاسيما منها، تلك التي تنتمي لخالص خاص المشاعر والأحاسيس. كالأعمال الإبداعية على أشكالها وأصنافها.

إذ أن لكل منا ذلك المقدار/النسبة، الأكثر خصوصية ذاتية، من الرؤية والرؤيا ووجهة النظر، التي من الصعوبة على درجة عالية، أن يتنازل عنها أو يساوم عليها.

ليبقى الحب وحده:

لئن كانت جائحة الحرب الدولية على سورية، هي المنظومة التي تنتظم الزمان والمكان والموضوع، في رواية القطار الأزرق. فقد انتظمت قولة السيد المسيح (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، حياتنا بشتّى أبعادها واشتملت فيما اشتملته الحرية والحب – ولنقل (الحرية والمحبة) حيث المحبة هي الوجه الأكبر/الأعم/ والمجتمعي للحب – وهما الترمومتر الذي بوساطته نستدل إلى موقعنا، الذي نشغله لحظة القياس.. قربه من.. بعده عن.. الوصول، سواء في الحرب أم في السلم.

الوصول الذي يمكننا أن نطلق عليه اسم “الخلاص” أو “القطار الأزرق”. القطار الذي قد يأتي وقد لا يأتي. لماذا أزرق؟

بالأحرى لماذا اختار مؤلفو الرواية هذا اللون لقطارهم؟

هناك احتمالات عديدة للإجابة عن السؤال، قد تضاهي بعددها ألوان طيف الشمس. فالأزرق غنيٌ بمدلولاته ورموزه وإشاراته، النورانية منها، الطبيّة، الطقوسية، والجمالية. فهو لون الرحابة والصفاء والفرح.. لون التفاؤل والطموح والأمل..

أوليس السماء زرقاء؟

المحيط أزرق؟

البحر أزرق؟

والخرزة التي تقي من العيون الحاسدة زرقاء أيضاً؟

(أمَّا لماذا لا يأتي القطار، فلأننا بقينا منفعلين لا فاعلين، متكئين على غيرنا في توفير ما نريد، نسوّغ لأنفسنا الانتظار، ونبتكر التسويغ أحياناً لأننا بكل بساطة لسنا أحراراً. ص 81).

ولعله بات من منسيات مسلماتنا:

أنّ الحب بين طرفين لا يتم من دون حرية..

وأن الحروب هي أوّل وألدّ أعداء الحرية..

ونعطف توقنا ورأينا، على رأي “فاتن” بطلة الرواية وثريّاها وعروسها، الرأي الذي تؤازره كل القلوب الطيبة، والأرواح الخيّرة، والنوايا الحسنة، عندما تقول:

(ليت الحرب تختفي إلى الأبد، ليبقى الحب وحده فقط. ص 200).

محطة في سكة السرد:

ختاماً،

يحدوني وازع التنويه، بـ (علوِّ كعب) روايتنا الراهنة في الإبداع، بناء على أسباب لوحظت وأشير إليها عبر انطباعنا هذا. وأخرى غابت، أو حضرت ولم تحظ بالإشارة. أهم تلك الأسباب/الروافع، سببان متلازمان متوازيان ومتكاملان:

– كاريزما الحضور الروائي: راوياً.. مروياً.. ومروى عنه..

– التعددية التشاركية للمؤلفين، بحجب الرؤية عن المعنى الحرفي، التحاصصي أوالإحصائي الضيق للتشاركية. بقصد الارتكاز أكثر، إلى المعنى البنيوي الأرحب للكلمة. حيث لم تكن “القطار الأزرق”/الرواية/المغامَرَة/، في النتيجة، إحرازاً “غينيس” ياوياً وحسب..

بل تاريخاً مفصلياً في سيرورة الرواية.

ومحطة رئيسة في سكة السرد.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى