مكاشفات

المُثقَّفُ وصِناعةُ الطَّاغية

د. مُحمَّد الحوراني

في كتابه “الإرهاب وصُنّاعه… المُرشِد /الطّاغية/ المُثقَّف”، يُحمِّلُ المُفكِّرُ اللُّبنانيُّ علي حرب المُثقَّفَ قَدْراً من المسؤوليّةِ عمّا حَدَثَ ويَحدُث، ولا سيّما أنّهُ أخفقَ في تجديدِ الأفكارِ بقَدْرِ ما تعَامَلَ معَ قضاياهُ بصُورةٍ تقليديّةٍ ديكتاتوريّةٍ بوَصْفِها حقائقَ نهائيّةً، وانطلاقاً من هذا المعنى فقد قدّمَ المُثقَّفُ الحداثيُّ خِدمةً كبيرةً إلى الطَّاغيةِ السِّياسيِّ من حيثُ لا يَحتَسِبُ، ومِنْ ثَمَّ غدا الوَجْهَ الآخرَ للدَّاعيةِ الأُصُوليِّ، فكلاهُما تَحوَّلَ ديناصُوراً، المُثقَّف من خلالِ العناوينِ المُسْتَهْلَكةِ التي يَطْرَحُها، والدَّاعية بشِعاراتِهِ البائدةِ التي يَحمِلُها.

ولهذا، لا غرابةَ في أنْ يَتحكَّمَ التَّخلُّفُ والاستبدادُ في مُجْتَمعاتِنا، وأن تُصبِحَ هذهِ المُجتَمَعاتُ فريسةً للطُّغاةِ بعدَ أنْ وَجَدُوا فيها ما يَقْتاتُونَ عليهِ، ويُجذِّرُونَ مِنْ خلالِهِ أنْظِمَتَهُمْ بكُلِّ ما فيها من ظُلْمٍ وبُعْدٍ عن الأخلاقِ التي ينبغي أن تكونَ حاضرةً في أنظمةِ حُكْمِهمْ وتَعاطِيهمْ معَ الجُمْهُور، بل إنَّ ما قامَ به المُثقَّفُ، وهذا لا ينطبقُ على جميع المُثقَّفينَ بالتأكيد، مِنْ تمجيدٍ للحاكمِ وتبجيلٍ لمُمارساتِهِ، جعلَ الجُمهورَ يبتعدُ عن الشخصيةِ الإنسانيّةِ المُتكاملةِ، التي ينبغي لها أن تنالَ جميعَ حُقوقِها السِّياسيّةِ غيرَ منقوصةٍ، وأنْ يعترفَ المجتمعُ بقيمتِها وكرامتِها الإنسانيّةِ، فالأخلاقُ الجيّدةُ والتَّديُّنُ الحقُّ نتائجُ مُترتِّبةٌ على النِّظامِ السِّياسيِّ الجيّدِ، لا العكس، وهذا النّظامُ لا يُمكِنُ أنْ يُحقِّقَ حُضورَهُ المُجتمعيَّ الفاعلَ إلّا من خلالِ النَّقْدِ وتسليطِ الضَّوءِ على السَّلْبِيّاتِ التي يَقْتَرِفُها، بعيداً عن الانتهازيّةِ التي تَحْكُمُ مَسِيرَةَ بعضِ المُثقَّفينَ وأنصافِ المُتعلّمينَ، رغبةً منهم في نَيلِ المَغانمِ، وسَعْياً منهم إلى الحُصولِ على سُلْطةٍ زائفةٍ، وإرضاءً لغُرورٍ طائشٍ، ولهذا تَراهُمْ يَتَفنَّنُونَ في تسويغِ أفعالِ الحاكمِ المُستبدِّ وتبريرِ آثامِهِ، وُصولاً إلى تَصْنِيعِهِ طاغيةً يُمكِنُ أن يَنْتَعِلَهُمْ، ويستبدَّ بهم قبلَ غيرهم.

هذا التَّصنيعُ للطَّاغُوتِ الذي يقومُ بهِ مَنْ يُفْترَضُ أن يكونوا النُّخبةَ هو مفتاحُ الشُّرورِ والآثام التي ستحيقُ بأهلِها لاحقاً، وستُدمِّرُ البنيةَ المُجتمعيّةَ العميقةَ لِمَا تَحمِلُهُ من أمراضٍ ومخاطرَ على المجتمع، وهي المخاطرُ التي لا يُمكِنُ للمُثقَّفِ أو الفيلسوفِ المُمجِّدِ والمُبجِّلِ للطاغيةِ والحاكمِ أن يكونَ في منأىً عنها، فالطاغيةُ لا يمتلكُ أيّاً من القِيَمِ الأخلاقيّة، وإنِ امْتَلَكَها في مرحلةٍ ما فهو امتلاكُ المُتَصنِّع، إذْ لا وفاءَ بالوَعْدِ، ولا صداقات دائمة، ولا كلمةَ شرفٍ لدى الطُّغاةِ تاريخيّاً، فها هو ذا “ديون” يُنفَى بتُهمةِ التآمُر، ويُسجَنُ أفلاطونُ في بُرجِهِ، ويُمنَعُ من المُغادَرةِ إلّا بإذنٍ صريح، بل إنَّ أفلاطون تعرَّضَ لمُحاولةِ اغتيالٍ دبَّرَها لهُ “ديونسيوس” الأب، في تأكيدٍ عمليٍّ على انتهاكِ الطاغيةِ القِيَمَ الإنسانيّةَ والأخلاقيّةَ وتدميرِها وكُفْرِهِ بالمُثقَّفِ والمُفكِّرِ والفيلسوفِ أيّاً كانوا.

ولعلَّ ما شَهِدَتْهُ المنطقةُ العربيّةُ خلالَ أكثرَ من عقدَينِ من التحوُّلاتِ الفاصلةِ في تاريخها أدَّى إلى تَعْرِيَةِ عددٍ كبيرٍ من المُثقَّفينَ، وأظْهَرَ انْتِهازيّتَهُمْ بوُضوحٍ وجلاء، بعدَ تَخلِّيهِمْ عن قِيَمِهِمْ وابْتِعادِهِمْ عن مَبادِئهمْ، وهذا ما شكَّلَ صدمةً كبيرةً للوَعْي الجمعيِّ العربيِّ بعدَ أنْ عايَنَ عدداً كبيراً من المُثقّفينَ يَمْتَدِحُونَ الأنظمةَ والسُّلُطاتِ العربيّةَ وَفْقَ ما تُقدِّمُهُ هذه الأنظمةُ من مِنَحٍ ومُكْتَسباتٍ إليهم، وكانوا قد قدَّمُوا أنْفُسَهُم مُدَّةً طويلةً على أنَّهم المُخلِّصُونَ لهذه المُجتمَعاتِ من مُعاناتِها، وأنّهُمْ يَلْهَثُونَ وراءَ إسعادِها وتحقيقِ الحياةِ الكريمةِ لها.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى