النرجسية الوطنية
النرجسية الوطنية… ثمة طفلة السورية تتسول رغيفاَ، هذه الأيام. وثمة طفلة فرنسية في فيلم مشهور تتسول رغيفاً، تلك الأيام، هي المغنية الفرنسية “اديث بياف”.
كانت طفلة صغيرة كدوري، وهي تقف إلى جانب المشردين، وباعة البهلوانيات، مادة يدها بقبعة التسول، فيما أبوها يقوم بحركاته الاستعراضية في الشارع دون جدوى. فلم يضع أحد فرنكاً واحداً في القبعة. وهذا يعني “لا طعام لهذا اليوم”…
حين أوشك الجمهور الفضولي على الرحيل، طلب الأب من طفلته “اديث” أن تفعل شيئاً، أن تغني… أن تغني أي شيء. وكانت لا تعرف أية أغنية، فغنت، بحنجرة الطفلة الذهبية، النشيد الوطني الفرنسي.
وقد حول الصوت العاطفي المكسور والخائف كلمات “المارسيلييز” إلى شجن آت من النرجسية الوطنية للناس فامتلأت القبعة بالنقود.
فيما بعد… غنت “اديث” كل شيء بحنان آت من أيام تلك الطفلة، وتلك الشوارع، وذلك العصر.
“سيكون لي ذات يوم،
رجل يحبني.
ونعيش كطائري الدوري،
وسنغني.
وعندما يفرق الموت بيننا…
عندما تودعني…
لن أبالي أبداً، فيما إذا قلت الكلمة الأخيرة:
أحبك يا حبيبتي…
لأنني بعد دقائق… سأكون ميتة”
حين كانت الشرطة تمنع هذه الطفلة من الغناء في الشارع… كانت تلجأ إلى التأثير عليهم بتلك الروح المتشردة المرحة اللامبالية.
“إن أعطيتني، أيها الشرطي، سيجارة…
سأغني لك.
كل ما أطلبه سيجارة
وسأقول لك: كم أنت وسيم”
و”كل ما أملكه هذا الجسد.
وقد بدأ يتعب، فيما عصفور الدوري منهمك في بناء عشه على الشجرة”.
الفيلم يصور قصة حياة هذه المغنية العظيمة ذات الصوت الفريد في الخمسينات من القرن الماضي، يصور الفقر. الحب. السعادة. الأغنية. وفي كل هذه المفردات ثمة ندبة الفقرالتي من الصعب ألا تتفقدها الذاكرة، والحب… فلا أحد يعرف أين يذهب الحب بعد الموت.
ما من نشيد وطني، اليوم، يملأ أية قبعة بفرنكات الحنين إلى مكونات النرجسية الوطنية لأية “دياث عربية.
“نحن المنبوذات… نحن المنبوذات،
اللواتي، في مكان ما،
في ليلة ما… عرفنا الحب.
نحن المنبوذات لا نبالي بأي شيء، بلا أحد.
وعندما يحصدنا الموت،
يوم يحصدنا الموت… سيكون أجمل يوم في حياتنا.
يا أيتها الأجراس…
اقرعي للشابات المنبوذات…
نحن المنبوذات.
ليس كل مغن للخلود.
ولا كل أغنية للبقاء في الأذن الوسطى للآلام البشرية.
ولكن ثمة ما يقال على لسان عصفور:
“لو كنت أخاف لما بنيت عشاً في شجرة تحتها صياد”.
لو لم يتوارث القلب تلك العاطفة… لما كانت هناك كل تلك القيثارات تحت كل تلك النوافذ المضاءة.
في فمي أغنية…
لم أعرف، بعد،
ماذا سيكون مصيري إذا غنتها امرأة أحبها؟
أيتها المغنية، وأنت ترتجفين لحظة الغناء…
اجعلينا… نهدأ قليلا.