تجليات فعل المطاردة في ‘بيت التوراة’
تقدم رواية ‘بيت التوراة’ الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق للروائي سامي البدري تشكيلات سردية تخييلية تبدو غامضة ومتقلبة ما بين التركيز على الشخصية أو على الحدث المثير للانتباه والتساؤل أو عليهما معا، ولعل الروائي على وعي تام حين مازج بين طرحه لعملية الاستيلاء على إرث ديني يهودي يتمثل بالشوفار الأزرق وبين أسلوب طرحه للكيفية التي تعامل بها الصحفي سجاد الفارس وهو يواجه جهات إيديولوجية مختلفة بعد كتابته للتحقيق عن حارة سوق اليهود في مدينة سامراء لتبدأ الكشوفات المستمدة من ضبابية بعض الفترات المجهولة لدى عامة الناس في التاريخ ومن ذلك فترة هجرة اليهود من العراق وتركهم لإرثهم الديني والقيمي والبيئي المتمثل هنا بذلك الشوفار وعثور أحد الأشخاص عليه بعد سنين من سكنه لبيت بيع لأجداده وكان في الاصل معبدا يهوديا، ليأتي التعبير الأسلوبي في مجمل مشاهد وأحداث الروي بصورته العامة وهو يشكل ترتيلا لقدسية ما عثر عليه على وفق صورته الدلالية الواقعة للتأرخة المشخصة في سجلات ولادات ووفيات افراد اليهود برهبانهم وأحبارهم وعامتهم ورموزهم الدينية المخزونة في بيت التوراة، ومحاولة جهات خارجية تتمثل في المخابرات الإسرائيلية الحصول على تفصيلات ذلك الإرث الذي يعدوه خاصا بهم كيهود وليس إرثاً خاصاً بيهود العراق تحديداً، وللإحاطة بكل ذلك وضعنا الروائي وهو يؤثث بيئته موضع استعارة لبيئة منطقة سامراء وتاريخها الاستيطاني، لكنه يقدم بيئة الاستعارة الفنية اكثر منها استعارة مناطقية وكأنه يحاكي ما يفعله الزمن بخيطه السائل والمتقطع وهو يفككه ثم يركبه على اساس الكم المتراكم عنده وما يحيطه من غرابة وألغاز.
اتخذ الروائي عنوانات متعددة لتكون أشبه بفصول تتحكم بسبك الأحداث وتُعنى بتطوير سير الروي على وفق آليات اشتغال تراعي بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أو الترميز في تبئير دلالات الروي بما يكثف مضامينه، ويستنتج وقائعه التي جميعها مرتبطة بخيط صانع لنسيج الفكرة الأساس وهي متحددة بالشوفار الازرق واطماع الاستحواذ عليه ومن ثم اختفائه و عدم معرفة مصيره.
كان أكثر ما يميز تلك العنوانات أو الفصول بنية الحوارات الداخلية والخارجية فيها فبعد أن أحدث التحقيق الصحفي الذي أجراه سجاد الفارس تلك الجلبة وذلك الانتشار وبعد أن بدأت تهل عليه جملة رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكان من أهمها تواصله مع الصديقات الثلاث اليهوديات (مالكا، أدفا، اديرا) وهن جميعا كان يشغلهن أمر الأصول اليهودية وإرث الأجداد في العراق مع اختلاف أن لكل منهن وجهتها وكانت اهمهن مالكا التي ارتبطت بسجاد بعلاقة حب عبر الأثير لتشكل تلك العلاقة تساؤلات عدة قد ترهق كاهل القارئ في بادئ الأمر فيصعب الفصل بين ذلك الحب وتلك الغايات المتعلقة بالشوفار الازرق، ويبدو أن الكاتب أراد أن يعطي نفساً جديداً للرواية ويخرجها من خانة المطاردات والأطماع ليرطبها بذلك التشويق وتلك الاثارة التي كانت تتخلل الحوارات عن طريق وصف الملامح وطريقة الكلام وأسلوب الحديث الذي يوصلنا إلى إن مالكا لم تكن عند سجاد عضوا فعالاً في مغامرة، انما الزمنا بقبول ما يقع عليه من حمايتها والمقاتلة من اجلها وهذه النقطة كانت إحدى مفاتيح الحب المتبادل بعد أن يتم خطفه وتسفيره إلى تركيا من قبل مافيا مجهولة لتحضر مالكا لرؤيته ويتم خطفها وإبعادها عنه لابتزازه بها.
إن بنية المطاردة في هذه الرواية قد اكسبت السرد ذاته سمات مميزة يمكن لنا ان نعدها بنية خطابية لغوية تتمتع بلوازمها ومواصفاتها الخاصة، وبذلك “تتجه الرواية البوليسية الى توظيف بنيات سردية في لعبة مزدوجة أو متعددة لتعرية المستور والمخبوء من وقائع بواسطة مختلف الادلة”(1) فالرواية مكتوبة بتوتر عال يكشف ما استتر ليكون واضحاً للعيان خاصة وهي تفضح الكثير من مظاهر الخراب الذي قوض دعائم النظام المدني في ظل السياسة البوليسية التعسفية للنظام الديكتاتوري التي يناهضها إحساس البطل بوطنيته وضرورة الدفاع عن أحد مكونات المجتمع العراقي القديم وهم اليهود من جهة، وتمزقه وهو يرى خيبات كبيرة تكبل بها من قبل مسئولي بلده، ولإثبات ما قلناه استخدم الروائي أحد شخصياته الثانوية ليدعم خط سير الروي بما يخدم هذا الجانب، وهو هنا ذلك الضابط العراقي الذي أراد اشباع اطماعه على حساب ضحيتين تمثلتا بـ ‘أدفا’ و’اديرا’ اللتين قتلتا هما الاثنتين واحدة بعلمه من قبل جهات إسرائيلية وأخرى على يديه وهو من قام بقتلها، ذلك أن الرواية تستقرئ الكثير من الجوانب التي رافقت سقوط النظام الديكتاتوري ودخول قوات الاحتلال الأجنبي والتداعيات التي رافقت ذلك ومنها احتدام الصراع على إرث البلد وظهور عصابات محترفة للاختطاف والقتل لاسباب استحواذية واطماع مادية، وبذلك لا شك أن القارىء عليه وهو يواجه هذه اللعبة السردية أن يستخدم ما يستطيع استخدامه من وسائل المعرفة والإدراك والاستدلال والفحص والتحقق والمقارنة خاصة أن هناك ما هو مرتبط بنظرة الشخصيات الروائية إلى العالم، ذلك أن الجدل بين طرفي قضية تخص إرث عام من شأنه أن يُظهر في الرواية بشكل جلي منظومة فكرية متبناة من قبل الشخصيات إزاء قضايا سياسية واجتماعية، ومن المؤكد أن المتلقي سوف تستثيره مثل هذه الجزئيات كالحوار الذي دار بين سجاد واديرا أو بين اديرا وصديقتيها ادفا ومالكا حول ارتباط اديرا بحزب ما أو جهة تريد استخدامها لاغراضها ومصالحها الشخصية ومن ذلك الحوار الدائر بين سجاد واديرا والذي جاء فيه:
” ـ هل انتِ على معرفة تامة ببيت التوراة ومرافقه؟ فردت باندفاع :
ـ بالتأكيد.
ـ وهل تعرفين انه يحوي سردابين، تعمد طمرهما اجدادك، قبل خروجهم من سامراء ومن العراق ككل؟ هنا صمتت لدقيقة متصنعة سماع المعلومة لأول مرة ولكنها سرعان ما عادت إلى جديتها لتقول بثقة:
ـ نعم اعرف طبعا.. وهنا قلت بطريقة من كشف السر: إذا هذا هو سبب تصميمك على الحديث معي وسبب تركيزك على الكلام عنه…؟ هنا ظهرعليها الاحراج والحيرة فعلا ودورت رأسها بكل اتجاه وكأنها تبحث عمن ينقذها مما تورطت فيه فقالت :
ـ لا يذهب بالك بعيدا، انت تعرف كم هي معابدنا مقدسة عندنا ..
فقاطعتها بهدوء: في كل الديانات المعابد مقدسة عند اتباعها.. فقاطعتني بنفس الهدوء:
ـ نعم فعلا، ولكن إذا اضفت البعد التاريخي وما رافقه بالنسبة لنا، ربما ستفهم اسباب حرصنا على معابدُنا، وخاصة بالنسبة لمعبد سامراء الذي هناك من يدعي شراءه منا، وهذا يعني اننا بعناه، وهذا هو المستحيل بعينه. وهنا قلتُ باستفزاز مكتوم:
– لابد انكِ سمعتي ان الحارة وسوقها أيضا تقع الآن ضمن حدود توسعة المرافق المحيطة بالعتبة العسكرية التي تتوسط مدينة سامراء، وقد بدأ الوقف الشيعي بالفعل بشراء بيوتها، وهذا يعني ان الحارة وسوقها واغلب ابنيتها متداعية وليست اكثر من خرائب فعلا، مهددة بالإزالة فعلا؟ وهنا سألتني بقلق ظاهر: وهل يمكن ان تشمل هذه التوسعة بيت التوراة ايضاً؟ فقلت بهدوء:
– وما خلفه ايضاً ربما. هنا صمتت مفكرة ثم قالت:
– لم اسمع بهذه التفاصيل فعلاً: فقلت بذات الهدوء :
– ولكن بالتأكيد فإن غيرك قد سمع ، بل وربما يملك تفاصيلاً اكثر مما املك، فيما لو كنت سألتهم. هنا جاءت بحركة لا ارادية كمن وخز فجأة وقالت:
– من تقصد بهذه الجهات؟ ومن ثم، ومن أجل ان تلطف من حدة سؤالها أضافت برقة مصطنعة: ياصديقي؟ فقلت بهدوء مصطنع:
– بعض الأحزاب السياسية، ذات الخلفيات أو الاديولوجيات الدينية، وهي تنتشر في كل دول العالم كما تعرفين.. وتوقفت هنا لحظة لأركز عينيّ في وجهها، ثم أضفت : وبصراحة، لديّ احساس عميق انك تنتمين إلى احدها، رغم أن الامر لا يعنيني أو يهمني بشيء على الاطلاق……”(2).
في لغة السرد نجد كثيرا من المقاطع التي اعتنت بوصف الأمكنة كالطرقات والازقة في بغداد وسامراء والإقامة لمشتاق في فندق بالأردن وهو ـ الشخص الذي عثر أولا على الشوفار الازرق، والاحتباس من قبل مختطفي سجاد في فلة معزولة في تركيا، وكل المشاهد الحوارية او الوصفية او الروائية التي اثثت هذا الفعل السردي بما تضمنه من فضاءات تعد اماكن غايتها الدعم والاسناد لفعل المطاردة ذاته، ويمكننا من خلالها القول ان الروائي سار وهو يصف الامكنة على وفق وجهة معينة تغلفها الواقعية في تسمية اماكنه عن طريق الاكثار من ذكر اسماء الشوارع والاجنحة في الفنادق والغرف وطوابق البيت أو الفلة وغيرها من الامور التي تهدف الى اشعار القارئ بأن كل ما هو مذكور حقيقي، بينما لا تهدف الرواية الى الاخبار أو الحكي المجاني، إذ انها مكتوبة بنفس سردي واحد، وبذا يحق لنا القول ان بنية السرد هنا مكافئة لبنية المطاردة.