حميد سعيد وجيل “الستّينيّات”: فيض الذاكرة وجمر التمرّد (2)
حميد سعيد وجيل “الستّينيّات”: فيض الذاكرة وجمر التمرّد (2)…كان عبد القادر الجنابي قد أعاد “الستّينيّات” إلينا أو أنه أخذنا إليها بمن فيهم جيلنا الستّيني، وذلك حين نشر في العام 1992 عددًا خاصًا من “مجلة فراديس” (4-5) قدّم فيه العديد من روّاد ذلك الجيل أو المشاركين في حركيّته شهاداتهم الخاصة، ثم عاد وأصدر كتابًا في العام 1993 بعنوان “انفرادات الشعر العراقي الجديد”، ولعلّ ذلك ما دفع سامي مهدي للإسراع بإصدار كتاب قال إنه بدأ العمل فيه منذ العام 1978، وبسبب ظروف خاصة وعامة تأجّل إكماله، وصدر الكتاب بعنوان “الموجة الصاخبة – شعر الستّينيّات في العراق” في العام 1994.
وقدّم سامي مهدي في كتابه رؤية توثيقيّة لجيل الستّينيّات ولعدد من روّاده، خصوصًا لتجاربهم الشعريّة الجديدة. ويعتبر كتابه مرجعًا عن جيل الستّينيّات الشِّعري، خصوصًا وقد بذل جهدًا في تدقيق وتوثيق النصوص والموضوعات المنشورة خلال الستّينيّات بالرجوع إلى مصادرها الأصلية من خلال جرد شامل لما صدر وما نُشر بفهرسة كاملة، ناهيك عن جانب مهم من حياة المقاهي البغدادية وروّادها من الأدباء والمثقفين بشكل عام والنقاشات التي كانت تدور بينهم، ولعلّ الجهد المتميّز المبذول في إعداد الكتاب وتبويبه ولغته يعطي للباحث خريطة ثقافية مهمة للتعرّف على حقيقة إبداع جيل الستّينيّات وانشغالاته دون إهمال النتوءات والإقحامات السياسية التي كانت تبدو خارج سياقها في الكثير من الأحيان، ناهيك عن بعض الحساسيات الشخصية وادّعاء الأفضليات، لاسيّما محاولة التقليل أو الانتقاص من دور فاضل العزاوي الذي سخّر صفحات كاملة للحديث عنه، إضافة إلى ما ورد في متنه للردّ عليه، أو السعي للنيل من بعض المثقفين الذين غادروا العراق بسبب القمع في أواخر السبعينيات.
وخارج نطاق بعض الأحكام السياسية، وهو أمر مفهوم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ صدور الكتاب (في العام 1994)، حيث كان سامي مهدي حينها أحد أبرز الوجوه الثقافية والإعلامية في عهد النظام السابق، وبعض التقييمات الشخصية الذاتية فيما يتعلق بالمنافسة والريادة وإنساب المزايا أو حجبها، أقول بغضّ النظر عن ذلك، فالكاتب والحق يُقال كان أمينًا في النقل والاقتباس والتوثيق.
ثم جاء كتاب فاضل العزاوي “الروح الحيّة – جيل الستّينيّات في العراق” العام 1997، وهو كتاب مؤسّس للحركة الستّينية، التي لا يمكن الحديث عنها دون الإتيان على ذكر دور فاضل العزاوي وإلى كتابه النقدي للواقع والتجربة الخاصة والعامة، وقد احتوى الكتاب باقة أفكار واجتهادات جريئة كان سبّاقًا إلى طرحها منذ أواسط الستّينيّات، ولا بدّ من الإقرار أن فاضل العزاوي كشاعر وروائي وكاتب ظلّ الأكثر أمانة والأكثر تعبيرًا عن جيل الستّينيّات وإرهاصاته الذي يعتبر ركنًا أساسيًا ورياديًا من أركانه، وإذا كان البعض قد بدأ يتأثر بالموجة الستّينيّة حتى بعد انقضائها، فإنّ بعض المشكّكين والناقدين انحاز لها وأصبح من دُعاتها بحكم تغيّر المواقع والمسؤوليات ذاتها أحيانًا.
وبغض النظر عن بعض الردود على سامي مهدي والحساسيات الشديدة باختلاف المواقع، فإن كتاب العزّاوي – “جيل الستّينيّات: الروح الحيّة” قدّم ربطًا كبيرًا بين جيل الستّينيّات العراقي والجيل ذاته على المستوى العالمي، أي العلاقة بين العامل المحلي والظرف الدولي في التعبير عن حركة الحداثة في كتابة جديدة أطلق عليها “الموجة الجديدة” و”الكتابة الطليعية” و”الكتابة المضادّة” و”الكتابة الحرّة” وغيرها، ولعلّ قصده من ذلك هو محاولة خلق فضاء جديد للحداثة.
وفي وقت متأخّر صدر كتاب فوزي كريم الموسوم “تهافت الستّينيّين- أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي” 2006، حاول فيه أن يقدّم رؤية مختلفة عن رؤية سامي مهدي وفاضل العزاوي خارج دائرة الصراع السياسيوي- الثقافي، لاسيّما بعد احتدامه في أواخر السبعينات. ويمكنني القول بعد هذه المقدمة إن للحركة الستّينية روافد متعدّدة لا يستطيع أحد أن يزعم أو حتى يدّعي احتكارها أو النطق باسمها، طالما كانت هناك رؤى عديدة ومتعدّدة ومتباينة في نظرتها للحداثة والجمال والحق والتنوير، وهو ما تمّ التعبير عنه في الكتب التأسيسية الثلاث، وأعني بها كتب عبد القادر الجنابي وسامي مهدي وفاضل العزاوي، ولذلك اخترت عنوانًا مستوحى من الكتب الثلاث “انفرادات” و”الموجة الصاخبة” و”الروح الحيّة” والتي وضعتها مكمّلة لبعضها في هارمونية حركيّة ذات معنى دلالي في بحثي المذكور.
وعلى الرغم من التهافت الذي تحدّث عنه فوزي كريم، فإن جيل الستّينيّات حظي بشهرة كبيرة إلّا أن نتاجاته لم تحظَ بالنقد والدراسة والتأصيل بما فيه الكفاية، وتلك إحدى المفارقات، سواء تتعلّق بالجيل ذاته أو ما تعرّض له من خارجه من نقدٍ أو محاولة استصغار أو انتقاص، على الرغم من أن بعضهم غيّر مواقفه منه منتقلًا من النقيض إلى النقيض كما جرت الإشارة، لكن بعض الحساسيات والمواقف الذاتية ما تزال قائمة.
استحقاق
وإذا أردنا الحديث عن تجربة حميد سعيد الإبداعية وصيرورتها الستّينيّة وما بعدها فلا بدّ من التوقّف عند تجربة الجيل الستّيني بشكل عام خارج دائرة المبالغة بالتهويل أو التعظيم أو بالتقليل أو التهوين، فإنّ “جيل الستّينيّات” يستحقّ البحث والعناء لأسباب عديدة منها:
أولًا – لما عاشه من إحباطات وما شهده من تصدّعات وما اجترحه من معاناة، حيث تحطّم الكثير من قناعاته وانكسرت غالبية أحلامه، ولم يعد مكتفيًا أو مقتنعًا بما قدّمه جيل “الرواد” الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، مثلما لم يعد يرى في أسلوبه تعبيرًا عن حاجاته الجديدة وتناسبًا مع التطور الذي حصل، لذلك سعى للتجريب في محاولة لتجاوز ما سبقه.
وثانيًا – لما تركه من تأثيرات على الأجيال التي لحقته، فحتى بعد نصف قرن من الزمان ظلّت الستّينيّات عالقة ومتعلقة لدى جيلها وما لحقها من أجيال: تاريخًا ونقدًا وانطباعات وذكريات وشهادات ودراسات، وذلك في محاولة لإعادة القراءة والفهم والتقييم، فالستّينيّات امتازت بنكهة حادّة ورائحة قويّة وتجريبيّة عالية، خصوصًا وقد جمعت الأضداد في جوار أقرب إلى التجانس والانجذاب والتفاعل والتداخل والخصوصية المتميّزة بالاندفاع والتحدّي وإنْ ظلّت الفوارق قائمة لكنّ الحدود اشتبكت على نحو كبير.
وثالثًا – لما حاوله من تجارب لاستشراف الجديد وما سعى لابتكاره من أساليب، مطروقة وغير مطروقة، لتجاوز ما سبقه، خصوصًا وقد جاء بعد جيل الحرب العالمية الثانية الذي وجد نفسه وسط المآسي والعذابات، بما فيها ظروف ما بعد الحرب القاسية في أوروبا، ناهيك عن أوضاع العالم الثالث ومنه بلداننا العربية التي شهدت صدمة الاستعمار وامتدّت منذ بداية القرن العشرين وحتى ستّينيّاته، وصدمة الهزيمة الحزيرانيّة في العام 1967 التي ما يزال العالم العربي يعاني من تأثيراتها فيما يتعلّق بالمشروع الصهيوني، وكان من نتائجها مقايضة التنمية بالعسكرة، والإصلاح والتطوّر الديمقراطي الجنيني التدرّجي بالأنظمة الشمولية، والحكم المدني بهيمنة ضبّاط الجيش والعسكر، ودور المدنية وثقافتها المتطلّعة بالترييف وتقاليده الثقيلة، وهكذا تم قطع خط التطوّر الذي بدأ في عدد من البلدان العربية صاعدًا وإذا به يتجه بالنزول، لاسيّما في مصر وسوريا والعراق وغيرها.
وبغضّ النظر عمّا سبق الستّينيّات أو ما لحقها، فقد كانت حقبة مائزة رائزة، امتدّت تأثيراتها إلى ما بعدها وأنتجت أدبًا جديدًا وفنًّا جديدًا بمدارسه المختلفة، حيث شهدت الحركة الفكرية والثقافية تواصلًا مع ما قبلها ولكن بأفق جديد ورغبة جديدة في التحرّر والتعبير عن خصوصيتها، ارتباطًا ببُعدها العربي وتشابكاته ووصولًا وتواصلًا مع البُعد الإقليمي والدولي والتأثيرات المتبادلة.
الستّينيّات مضَت ولم تمضِ
لعلّ هذه الحزمة من الأفكار والذكريات والأسئلة كانت توشوشني كلّما أتيت على استحضار الستّينيّات، لدرجة أنني لا أستطيع الفكاك منها، فما زالت تدور في رأسي، وتفاجئني بين الفينة والأخرى لتتسلّل إلى نصّي أو تتغلغل في سرديّتي، بل تدخل عليَّ من هذا الباب أو أراها أمامي في تلك الزاوية أو يشعّ ضوؤها من تلك النافذة أو ذلك الشباك، وأشعر أحيانًا أن رائحتها تعطّر أنفاسي فكأنّي أتذوّق خمورها وأستنشق دخان سجائرها وأسمع صراخ حاناتها وجدل مثقّفيها في مقاهي البلدية أو حسن عجمي أو البرلمان أو مقهى الزهاوي أو مقهى أمّ كلثوم أو مقهى الشط أو “مقهى الحاج زناد” أو ليالي السمر أو عارف آغا أو البرازيلية أو “المعقّدين” (مقهى العباقرة كما كان يدعوه البعض تهكّمًا) أو في أروقة الجامعة وكليّاتها المختلفة ونقاشاتها الحامية وحواراتها الساخنة وحركاتها المتفاعلة. وفي أواخر الستّينيّات يمكن إضافة مقهى رعد ومقهى الربيع وشهد الأخيران لقاءات شيوعيّة كما شهد أحدهما أوّل لقاء بعثي- شيوعي في مجال الطلبة كنت قد جئت على ذكره في أكثر من مناسبة.
وكانت تلك المقاهي تضجّ بحضور للعديد من الأدباء والمثقفين أذكر منهم الحضور الدائم للشاعر عبد الأمير الحصيري وشاكر السماوي وعزيز السماوي وعزيز السيّد جاسم وشريف الربيعي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ووليد جمعة وعمران القيسي وعبد الرحمن طهمازي وفوزي كريم وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجليل العطيّة وسامي مهدي وحميد المطبعي وخالد الأمين ومزهر المرسومي، وهؤلاء من علقَ بذهني، علمًا بأنّ هناك أسماء أخرى عديدة لا يتّسع المجال لذكرها، وقد تكون أقرب إلى جيل الستّينيّات من بعض هؤلاء. وفي المساء كان ثمّة مجموعات متفرّقة تلتقي، لا سيّما أيّام الخميس أو بين خميسٍ وآخر في حانات أبو نؤاس منها: سرجون وبلقيس وكاردينيا وآسيا والجندول والشاطئ الجميل وغيرها.
ومن عاش الستّينيّات، لا يمكنه أن يتوقّف عند جانب واحد من جوانبها، فقد كانت مترابطة ومتلازمة إلى حدود كبيرة، ابتداءً من الشعر والأدب إلى السينما والمسرح والفن التشكيلي والموسيقى والغناء، ومن السياسة إلى الثقافة، ومن التربية والتعليم إلى الجنس والمرأة والدين، ومن الرأسمالية المترهّلة والمنضبطة إلى الانفتاح ورفض السلطة، ومن البيروقراطية الاشتراكية إلى حلم الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، ومن الديكتاتورية والهيمنة إلى الرفض والدعوة للديمقراطية “الغائب الموعود” و”المنسي المفقود”، والمسألة سيّان بالنسبة للسياسي والمثقّف، وهي تنطبق على الجميع دون استثناء، حتى وإن كانت الفوارق قائمة، وسواء في الحكم أو معارضته، فالأمر واحد وإنْ كان الاختلاف بالدرجة والمدى، أمّا المحتوى والكينونة فهي واحدة على تنوّعها.
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين في 24 – 25 نيسان / إبريل 2022.