دمشق والشاب الذي كنته…
عند منتصف ثمانينات القرن الماضي، حطّت طائرة قادمة من “اسطنبول ” على بلاط أرض مطار دمشق الدولي بعد رحلة مليئة بالمطبّات الجويّة والنفسية في الهزيع الأخير من الحلم الذي كاد يوشك أن ينتهي ..وكان على متنها من الركّاب شاب كثير التوتّر، ثقيل اللسان، أسود الشعر، خفيف الذقن، متجهّم المشاعر، نزق الطباع، متردّد الأهواء، ترافقه حقيبة صغيرة وطموح كثير …ولم يختبر بعده خطوته الأولى على ضفاف بردى .
دقّق مدقّق الجوازات في ملامحه نزولاً وطلوعاً بين الجواز الأخضر والوجه الأصفر ثمّ سأل من خلف زجاجه ” كنت في بغداد ؟ أليس كذلك ؟ ”
ـ نعم كنت في بغداد …هل لديك مشكلة ؟ …أرجوك ، اعفني من خلافات بعث العباسيين و بعث الأمويين ..نعم، أنا عربي …ربما لا تكفي اللغة وحدها لإثبات ذلك …على كلّ حال لست مستشرقاً …ولا سائحاً ..ولا جاسوساً ….ولا انفصاليّاً كما فعلها حكّام “الحفصيين ” في بلاد المغرب منذ ما يزيد عن سبع قرون ….أنا جئت للدراسة بعد أن طردت من جامعة بلادي …هل تسمح لي أن أكون عربيّاً من شمال افريقيّة، جاء يلقي التحية على مقام الشيخ محي الدين، يقتفي أثر طارق بن زياد الذي قيل أنّه انتهى أسيراً في أزقّة الشام …دعني أقف دقيقة اعتراف عند قبور التجريدة المغربيّة ؟ …هل تسمح لي أن أكون ” عربيّاً وكفى “…!؟.
ابتسم عون شرطة الحدود ذو الشارب الكثيف والذي أضناه السهر وتشنّجت ذراعه من كثرة الأختام المتلاحقة مع كل طائرة، ثمّ قال بلهجة جزراويّة لطيفة ” لم هذا التشنّج ؟! ليش حامل السلّم بالعرض ؟ ! .. يبدو أنّك لم تنم جيّداً في الطائرة أو أنّ ما يقدّمونه من “مشاريب ” لم تكن من النوع الجيّد ….تفضّل هذا جوازك وأهلاً بك في دمشق …..من وين ما كنت تكون ،،، نرجو لك إقامة طيبة ” .
“من وين ما كنت تكون ” …ما أغرب جمال وقع هذه العبارة …! …هل أنّ كلّ السوريين شعراء بالسليقة ؟ ! …من حدود الوطن إلى حدود الله ….؟”
عبارة همس بها الشاب الذي كان نزقاً منذ قليل إلى نفسه وهو في سيارة الأجرة التي كانت تشقّ الغوطة والليل في طريقها إلى قلب المدينة ، ما لبث أن قاطعها السائق بسؤاله وهو يمدّ له بسيجارة “الحمراء الطويلة ” “وين بدّك تروح ؟”
ـ والله لا أدري يا …
ـ أبو شفيق …عمّك أبو شفيق …من وين انت يا ابني ؟
ـ من بلاد الله
ـ أكيد أنت لست من بلاد الشيطان …دخّن عليها تنجلي
نعم، دخّن عليها الشاب الأسود الشعر ..ـ و الذي هو أنا الآن ـ بكثير من بياض الرأس والقلب …وبدأت تنجلي أمام عينيه الناعستين أمور كثيرة …أوّلها أنه قضى ليلته ـ وبفضل أبي شفيق ـ عند شاب تونسي يسكن ضاحية ” مساكن برزة ” …أو “مشاكل برشة ” كما كان يقول أبو شفيق ممازحاً لكثرة ازدحام هذه المنطقة بالطلبة التونسيين ………..ولعلّ آخر هذه التجلّيات التي فتحتها سيجارة الحمراء الطويلة هو أنّي أكتب الآن عن دمشق كآخر معقل للمحبّة الممكنة في هذا العالم المليئ بالمطبّات كتلك الرحلة القادمة من “الأستانة ” ذات ليلة مفتوحة على كل أسرار دمشق وأوجاعها .
أمّا الغريب في الأمر هو أنّ الشاب الذي هداني إليه أبو شفيق كان ـ وبالصدفة ـ من ألدّ خصومي أيام الدراسة بسبب حبنا لصبيّة تزوّجت الآن من رجل ثالث …تصالحنا وضحكنا وكدنا نشرب نهر “بردى ” مع “مازة ” وحيدة اسمها “أم كلثوم ” في تلك الليلة التي كنت أحمل فيها السلّم بالعرض ….ومازلت كذلك، أحلم بقطف الشمس وتقبيل العالم بأكثر من فم .