
لو كنت أعلم يا الحبيبة أن الموت سيصبح لازمة لكلّ ثانية من ثواني العمر، ما أتيت على ذكره أبداً، لكنني يومها عرضاً عرجت عليه.
لا تستغربي ذلك يا العزيزة، فالصمت كان جمالاً أردّ به على بعض حضورك المشرق، وبائسة كلماتي إذا لم تعادل ولو جزءاً يسيراً من حضورك.
لم أكن أعرفك قبلاً، لكنّني كنت أسأل نفسي عنك، كنت أخجلُ منها وأنت تغيبين كلّ هذا الغياب، أتجنّب المعارف والأصدقاء وجميع الناس حتى لا يسألني أحدٌ عنكِ، وتشيرين إلى صدري، إلى نقطة القلب وموقعه: أنا أسكن وأقيم هنا.
من أجل ذلك رحت أردد بيني وبيني: من يمحو شعاع الشمس ؟ مَن ينفي انبلاج الفجر؟ يسدُّ الأفق أمام الغيم. مَن يمنع إذا ما فكرت تمطر ؟ ومَن يمنع شذا وردة إذا في الصبح ما انتثرت ؟ تفوحُ بريحها الطيب، كذاك أنتِ في بالي، كعصفور بدا ينشد، ليجمع حوله الأصحاب، يطربهم ويمضي دونهم أوحد، تمرين، نسيمٌ عذبةٌ أنتِ، فأذكركِ بنسياني وأذكركِ بذكراي، وأذكرُ أنني أذكر، حنين الغصن للأشجار، حنين العين للنظرة، تريدكِ أنتِ يا قلبي.
أودعتُ تلك الكلمات في الدفتر يومها والمرارة تجتاح كياني، وتخيلتك تقرئين بصوت موسيقي هادئ تلك العبارات مرددة كلمة ” الله ” مع كلّ توقف.
أعجبتك الكلمات أو أنّها أصابت منك مقتلاً، أعرفُ هذا بفطرة رجل انتظر طويلاً حتى أضناه الصبر، ليجد امرأة مثلك بحجم أحلامه وتصوراته، أو هكذا كان يعتقد من شيبته المصائب، فاحتال عليها لينجو من ذئب غادر أو قاطع طريق وقاتل يتربص في مكمنه،
لا أريد أن أنكد عليكِ بالحديث عن الدسائس، فلقد قال حزنك الباهي يومها : ذكرى جميلةٌ منك قبل أن أسافر.
هل كنت يومها تتنبئين بسفرنا المرير الذي غدا وشماً تتعرف إلينا الدنيا من خلاله؟ كيف عرفت أننا سنغدو كمن يركب بحراً متلاطم الأمواج لا يعرف إلى أين سيأخذه المركب؟ وما سرّ هذا الإلحاح الذي يلوبُ في الروح، يجعلها تحتاج إليكِ ولا تشبع أو ترتوي من رؤياكِ؟ يسيطر عليّ شعور بأنني ولدتكِ وعانيتُ فيك آلام المخاض، خرجتِ من خاصرتي، ومن ضلوعي، من قلبي خرجتِ، من فكري ومن عقلي، كنْتِ فكرةً عذبّتني أياماً طوالاً قبل أن تولد.
حاولت أن أكتبكِ فوق الورق،وخشيتُ أن أشوّهكِ بكلمات جوفاء لا ترتقي إلى عرشكِ الذي يطاول النجوم، ومع ذلك فقد حاولت، فنحن نضطر في كثير من الأحيان، وخاصة عند إخفاقنا بالوصول إلى من نحبّ إلى تسجيل اسمه، وتثبيته على أوراقنا، لنثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا لم نفشل، وأننا قادرون على استخراج ذاك المحبوب واسترجاعه ساعة نريد..
أكاد أجزم أحياناً أنّك مجرد فكرة من نسيج خيالي الواهن، وأنّني سعيت سعي المحموم إلى الشفاء لتكوني كذلك، أنت أردتِ التأكّد من شيء بداخلك وداخلي، كنتِ تكابدين كما أكابد، كنتِ أنا وأنا أنتِ.
وكان أول لقاء بيننا في محطةٍ للحزن والانتظار، ومع حمحمة رجال تسلحوا بكلّ شيء عدا عقولهم التي رموها جانباً ونصبوا الحماقة بديلاً منها، كان في شارعٍ وعلى رصيف، بالقرب من إشارة مروريةٍ تسمحُ ألوانها للجميع أن يمرّوا سواي أنا وأنتِ، وفي مقهى يوزّعُ كلّ التبوغ والأنفاس على الجميع ويمنعنا أنا وأنتِ أن نطلب ما نريد، وعند جسر يقف عليه حراس منعونا من العبور لأنّ أختام جوازاتنا لا تعبّرنا جسرهم، كان في حديقة خضراء تعجُّ بالحياة والفرح، وتضنُّ علينا بقليل منه، وكان وكان. كان في كلّ مرّة جديدٌ، وفي كلّ مرّة أوّل لقاء، يغطي فيه حسنك على كلّ الأمكنة.
كنت دائماً المرأة ُالاستثـنـاء، لا تتوقفين عند التفاصيل الصغيرة التي تتوقف عندها كلّ النساء، فمن أنتِ بالله عليكِ أجيبي، أملاكٌ أنتِ هبط فوق هذه الأرض ولم يتنبّه لوجوده أحد ؟ أم روح سقطت مثل قطرٍ ندي في عتمة ليل هادئ وسكنت في جسد امرأة ؟
أعتبُ على كلّ هذا الغياب، أهيئُ نفسي في كلّ مرّة لأبوح لك به، لكنّي حين ألتقيكِ لا أجد منه شيئاً، لكأنّكِ وحضورك يغطي كلّ شيء أم أن الأزمات هي التي تجعل كلّ ما مضى جميلاً ومضيئاً حدّ الإدهاش! سؤال ليس في مكانه وقد غدونا هذه الأيام نتحسر على كلّ ما مضى ولو كان موجعاً وبائساً، ولذلك أجدني أغلق دفتري الآن منتظراً فرصة أخرى وتقومين من ذلك الرقاد كي نلتقي من جديد.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة