زمان الشعر
هل للشعر زمان ؟ سؤال لابد من طرحه ونحن نواجه زمانا يكاد لا يعترف بالفنون كلها اعتراف أجدادنا به ، فلا الرسم ظل بحق فناً خالصاً برسمه ولا النحت ولا الموسيقا ولا الرقص … وغيرها … كل هذه الفنون باتت تتأرجح بين معناها الواقعي والحقيقي وتعريفاتها المتلاعبة المحدثة .
كانت الفنون فيما مضى من الزمن اجتهاداً بشرياً يعبر عن الفطرة وصارت اليوم إجتهاداً بشرياً يعبر عن التلاعب اللفظي والمعنوي في مواجهة الآلة التي شرعت تحل مكان الإنسان في معظم إبداعاته الفنية من خلال أدوات التواصل الآلي الإجتماعي بحيث باتت قادرة على إقتحام كل أشكال الحضارة البشرية المحدثة بعد أن كان هدفها حصراً حماية الفكر البشري و الغريزة والمهارات اللفظية.
وبهذا المعنى لم يعد البشر قادرين، مع سيطرة الألة على الإحتفاظ بهويتهم وخصوصيتهم. حدث هذا ويحدث كل يوم في عصورنا المحدثة وعلى الأخص ” فن الشعر ” حين اختطفته الألاعيب المجازية المصنوعة والخدع اللفظية والتعبيرية .. حدث هذا منذ سنين عبر عنها أحد أصحاب دور النشر الفرنسية حين قال لي في حوار بيننا منذ أكثر من ربع قرن – كما أذكر – جواباً على سؤال طرحته عليه حول حالات الشعر في بلاده فقال :
– لم تعد دور النشر الفرنسية تنشر الشعر بحجة أن الكتب الشعرية لم تعد تباع بسهولة لا كمّاً و لا كيفاً و إذا ما تجرأت هذه الدور على إصدار دوواوين شعرية فهي تنشر أشعار فيكتور هوغو مثلاً و لامارتين و ألفرد موسيه وأمثالهم كل عام بألاف النسخ التي تباع كلها أما الشعر الحديث فلا تغامر دور النشر بإصداره إلا نادراً أي يكاد لا يصدر في فرنسا حالياً أكثر من مجموعتين شعريتين أو ثلاثة لشعراء جدد كرسوا جدارتهم قبلاً في المجلات المعروفة ذات المستوى الرفيع و بعدد محدد لا يتجاوز الألف نسخة أو الألفين فقط و لا تباع إلا بعد أمد طويل في حين تباع مئات أو آلاف النسخ كل عام من شعر هوغو ولا مارتين وأضرابهما.
لا أريد أن أتشاءم كثيرا وإنما هدفي هو التعبير عن إنسانيتي وولعي بقراءة الشعر و إبداعه كشاعر و كصديق لمن مات من الشعراء المتهمين متجنبا جهدي إبداعات الحداثة بما اخترعته من أجهزة التواصل و التثاقف و التسلية إلا ما نجده قادرا على الإسهام في إنقاذ الكوكب الذي نعيش عليه من ويلات التصحر و تمزيق شبكة الأوزون بحرارة الشمس المحرقة كما في هجوم الأوبئة الحديثة التي نشكو في هذه الأيام من هجوم فيروسها الجديد القاتل على الكرة الأرضية جمعاء و ليس على بلد معين أو منطقة خاصة … و ليس الشعر وحده هو الفن المهدد بالخراب والفناء وإنما هي الأرض التي نعيش فوقها وهي تناضل ضد الفساد الذي تبثه أجهزة الحضارة وقد باتت تفشل في صراعها ضد الطبيعة التي تدافع عن نفسها وعن الفنون و الإبداعات التي تنسجم مع الطبيعة العذراء وما الشعر سوى إبداع الإنسان الحديث الذي بدأ يفقد سيطرته على الطبيعة وبالتالي على الفنون جمعاء.