فسحة للتأمل والاستجمام
فسحة للتأمل والاستجمام …. كل لغة أجنبية نتعلمها تمنحنا حياة جديدة ومعارف ممتعة وأساليب مختلفة، في خصائصها وفوائدها، عن البيئة والمجتمع واللغة الأم في ضوء اللغات الأخرى. لكن عتمة النسيان في دهاليز الطفولة الهرمة، بعد الثمانين، أكبر مشكلة يواجهها العجوز. والبرنامج اليومي لا بد من الالتزام به لتفادي هذه العلة التي أتفهمها جيدا، وهي أشبه ما تكون باليباس الذي يدب في عروق الشجرة سنة بعد أخرى من وطأة أعباء الزمن، واستجابة لناموس الطبيعة وهموم الحياة. تمارين الرياضة الصينية هي أولى خطوات العلاج، وإن كان نسبيا مسعفا وليس حاسما. كما أن القراءة والرسم والحوار مع الأصدقاء، هذه كلها تترك أثرا طيبا في إنعاش الذاكرة. وأرصد خطواتي اليومية، ولو بكلمات: مع ارتشاف كوب الماء الساخن متوجا بقطعة ليمون، أمضي نحو نصف ساعة في مراجعة عدة جمل يابانية، قراءة وكتابة.. والكتابة تأخذ وقتا أطول من القراءة، ذلك أن الأبجدية الصينية التي جاء بها الكهنة من الصين إلى اليابان في القرن الثالث أو الرابع هي صور تجريدية مقتبسة من الطبيعة، ولكل كلمة شكل هندسي معين من الخطوط الأفقية أو العمودية أو المائلة، أي أنها رسوم شبه هيروغليفية وإن لم يكن فيها طيور وحيوانات كاللغة المصرية القديمة. وكم أتمنى أن يستأنس بهذا البرنامج ويستفيد من تطبيقه كل من دخل شباب السبعين وما بعدها من شعاب جبلية عسيرة الصعود.
الخطوة الثانية تكون بصحبة كأس شاي أو فنجان قهوة، ومتعتهما أن أرتشفهما ساخنين قليلا، وليسا حارين .. وهنا يأتي دور الشعر فأطالع قصيدتين أو ثلاث قصائد، وما زلت مولعا بالرومنسية والشاعر شيللي بخاصة، إضافة إلى واقعية أودن المطعمة بسخرية شفيفة. وفي أحيان أخرى أقرأ فصلا من رواية إنكليزية/ أميركية.. وقد سحرتني في الأسابيع الأخيرة رواية الكاتب الأفغاني المهاجر إلى أميركا خالد حسيني، وهي بعنوان (ألفٌ من الشموس الساطعة) A Thousand of Splendid Suns .. وهذه الخطوة تستغرق 30 – 40 دقيقة، ونادرا ما تقارب الساعة، لأن الديسك وتصلب الظهر من أولى متاعب الشيخوخة، ولا بد من الحركة. ويكون إفطاري عادة في حدود الثانية عشرة، والغداء لن يكون قبل الخامسة، ولا حاجة للعشاء.
وهذه الفسحة الجميلة الهادئة بين الظهيرة والخامسة تشكل موسم العمل الجدي في الكتابة والترجمة ومراجعة بعض الأعمال المنجزة قبل إرسالها للنشر.
كتابي الجديد الموسوم بـ”أساطير النخيل والرمال” أرجو أن أنتهي منه مع نهاية الخريف، وهو خلاصة تجربة وفضاء ذكريات خمس وعشرين سنة من الغياب عن دمشق والاستغراق في عوالم شتى من التراث والترجمة وأدب الرحلة، فضلا عن زيارة عدة بلدان في الشرق والغرب.. ولعل الصين والسويد أجمل تلك الرحلات وأغناها صداقة واستكشافا وتفاعلا ثقافيا واسعا وعميقا. وكلما تذكرت الهند والصين واليابان أشعر بالخديعة الكبرى التي فرضها علينا المركزية الغربية، أوربية وأميركية، وأبعدتنا عن الشرق. ويطيب لي أن أشير إلى كتاب الباحث الموسوعي د. حسن مدن الموسوم بـ”ثقافة ظهرها إلى الجدار”، وفيه يبين أن رواد الفكر والثقافة في بلدان الخليج اجتذبتهم القارة الهندية ومنحتهم ما منح الغرب مصر وبلاد الشام من أنوار العصر وثمرات مبدعيه. شغف السرد والكلمة النثرية، مهاد الشعر وزوادته الغنية، هذا الشغف المختمر في المشاعر والأفكار هو الحافز المثير للكتابة والترجمة والتفاعل مع أفكار المبدعين ومشاعرهم وألوان بيئاتهم وكنوز تراثهم. إن شروق الشمس يظل أغنى من الغروب وأعمق وهجا، وإن اتسم الغسق بنفحات لا تخلو من أسى الوداع، كما أكد لنا ذلك حكيم المعرقة بقوله: إن حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد.