أن تتحدّثَ عن فلسطينَ وعن غزّةَ يُفضي إلى الحديث عن حربٍ لم تعرفِ البشرّيةُ مثيلاً لها عبرَ تاريخِها الحافلِ بالحروبِ والمجازرِ ومحاولاتِ الإجهاز على أصحاب الأرض وتهجيرهم.
وأن تتحدَّثَ عن الشعبِ الفلسطينيِّ يفتحُ بابَ الحديثِ عن بطولاتٍ قلَّ نظيرُها.
وعندما يُكلِّمك المقاومُ والأديبُ الفلسطينيُّ الملتزمُ والمشتبكُ عن الموت، فإنه يكلِّمكَ عن موتٍ يحدثُ أمامَكَ، لا عن موت تسمعُ عنه، والفرق بين هذين الموتَينِ فرقٌ شاسعٌ، حسْبَ رؤيةِ غسَّان كنفاني، وهو فرقٌ لا يُدرِكُهَ إلا من يشاهد إنساناً ينكمش بغطاءٍ سريرِهِ بكلِّ ما في أصابعِهِ الرّاجفةِ من قوَّة، كي يقاومَ انزلاقاً رهيباً إلى الفناء.
إنّ قضيَّةَ الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضيَّةُ الباقين المنتظرين بمرارة دورهم لكي يُشكِّلوا درساً صغيراً للعيون الحيَّةِ، وهي قضيَّةُ الملايين من أبناء الأمّةِ الذين استحكم بهم الجوع والألم، عن قصدٍ من قبل أنظمةٍ متواطئة أو متخاذلة، فأجبَرَتْهُمْ على التفكير بقوت يومهم ولقمة عيشهم بعيداً عن المجازر المرتكبة بحق أهلهم وإخوانهم في فلسطين، في وقت يشهدُ فيه العدوانُ على الشعبِ الفلسطينيِّ مرحلةً ،هي الأخطرُ، من بين مراحل سَلْخِ الشّعْبِ الفلسطينيِّ عن هويَّته وانتمائه، بعد أن فشلَتِ المحاولاتُ الصهيونيَّةُ كلُّها في سَلْخِ هذا الشعبِ عن أرضِهِ التي تجذَّر بها نخلاً وسندياناً لم تتمكَّنْ منه الرِّيحُ الصَّرصرُ المحتلّ الصهيوني وأعوانه على الرغم من قوتها وبطشها ورغبة أصحابها بتحويل الشعب الفلسطيني إلى أعجازِ نخلٍ خاوية تذروها رياحُ الذّلِّ الرسمي العربي.
إلا إنَّ طُهْرَ الدَّمِ الفلسطيني ونقاءَ الطفولةِ المتشبّثة بأرضها، وانتماءَ الأمهاتِ الفلسطينيَّاتِ أبى إلا أن يكون الملحَ لأرضِ فلسطينَ والكرامةَ لأبناءِ الأمّةِ.
وإذا كانَ بعضُ أبناءِ الأمّةِ قد تخلَّوا عن التفكير بفلسطين ومعاناة أهلها باعتبارها جزءاً من الماضي، وباعتبار أن الواقعَ يفرضُ عليهم التفكيرَ بما هو أهمُّ من معاناةِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ ووجعِهِ، فإنَّ أبناءَ فلسطينَ ومقاومتِها مازالوا متمسِّكين بثوابتهم قابضين على جمر حُبِّهم لبلادهم، إيماناً منهم أن الوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل، وهو السّلاحُ الذي يعتزُّ به المقاوم الفلسطينيُّ، الرافضُ أن تستوقِفَهُ الدّموعُ المفلولةُ لرجالٍ يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدّروع وتَفَلِ الزّهورِ، لأنّه ينظرُ إلى المستقبلِ بعزيمةٍ ووعي كما أنّ فعلَهُ المقاومَ وثباتَهُ على الحقِّ إنما هو تصحيحٌ لأخطائنا وأخطاءِ العالم كلِّهِ بحقِّ هذه القضية العادلة، ولهذا أبى إلا أن يكونَ كحدِّ السّيفِ، كالمنجلِ، كالنَّخْلِ، في مقاومتِهِ وإصرارِهِ وثباتِهِ على الحقّ.
حكايةُ الشعبِ الفلسطينيِّ في مقاومتِهِ وثباتِهِ هي حكايةُ الوجعِ والمعاناةِ والأملِ، حكايةُ الإصرارِ على التّمسُّك بالهويَّةِ، وانتزاعِها عنوةً من المحتلِّ وداعميه، كما أنها حكايةُ الفلسطينيِّ الثابتِ على الحقِّ النابتِ من جذورِ الإخلاصِ للأرضِ.
إنَّهُ حامد، ” ما تبقّى لكم” لغسّان كنفاني، الذي لا يجيدُ الحديثَ إلا باللّغة العربيَّةِ، وبالتالي فلا مجالَ للحوارِ والنقاشِ مع الجنديِّ الصهيونيِّ الذي لا يتحدَّثُ إلا بالعبريّة، ويرفضُ أن يتحدَّثَ بغيرها، وهنا تتجلَّى طبيعةُ العلاقةِ بين الطَّرفينِ، وطبيعةُ ما يجبُ أن يحكمَ هذهِ العلاقةَ، أعني الفعلَ المقاومَ، لأنَّ أيَّ حديثٍ عن علاقةٍ أو حوارٍ بعيدٍ عن المقاومةِ وفلسفتِها إنّما هو حديثٌ عن حوارٍ بين السَّيف والرَّقبةِ، وهو سيفٌ تشرَّبَ الحقدَ والسُّمَّ والتطفُّلَ على الطفولةِ والأمومةِ والمستقبلِ الفلسطينيِّ، الذي ينظرُ إليه بصفتِهِ مُهدّداً للمشروعِ الصّهيونيِّ ومقوِّضاً لحلمِ الاحتلالِ بإفناءِ الشعبِ الفلسطينيِّ وإبادتِهِ.
ولمَّا كانَ المثقّف الحقيقيُّ هو ضميرُ الشّعبِ فإنَّ من الواجبِ عليهِ النُّهوضُ في تمثيلِ المعاناةِ الجماعيَّةِ لأبناءِ شعبِهِ، وتوثيقِ معاناتِهم وصمودِهم ومقاومتِهم، وتنقيةِ الذَّاكرةِ الجمعيَّةِ ممَّا عَلِقَ بها من أدرانٍ، ونقْلِ هذهِ المعاناةِ إلى الفكرِ والثَّقافةِ والإبداعِ الإنسانيِّ، وتدوينِها في سِفْرِ التَّاريخِ للبرهنةِ على تخاذُلِ الآخرينَ ووضعِهم أمامَ مسؤولياتِهم الإنسانيَّةِ والوطنيَّةِ.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر