
تُعدّ رسائل الروائي الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير إلى لويز كوليه، واحدة من أثمن المراسلات الأدبية، ليس لأنها توثق علاقة بين رجل وامرأة فقط، بل لأنها تكشف صراعاً خفياً بين عالمين فكريين متباينين ورؤيتين متعارضتين للحب والفن والحياة.
تُعدّ رسائل الروائي الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير إلى لويز كوليه، واحدة من أثمن المراسلات الأدبية، ليس لأنها توثق علاقة بين رجل وامرأة فقط، بل لأنها تكشف صراعاً خفياً بين عالمين فكريين متباينين ورؤيتين متعارضتين للحب والفن والحياة.
«رسائل إلى شاعرة» (2017) الصادرة أخيراً بترجمتها العربية (دار الرافدين ــ ترجمة سلمى الغزاوي)، تتجاوز كونها سجلاً لعلاقة عاطفية؛ فهي تتيح للقارئ والباحث دخولاً مباشراً إلى «ورشة» فلوبير الإبداعية.
في الفترة التي كُتبت خلالها، كان الكاتب يبلور ملامح روايته الخالدة «مدام بوفاري». لذلك تتخلل هذه المراسلات إشاراته المتكررة إلى شخصياته، ومعاناته في البحث عن «الكلمة الصائبة»، ونفوره من البرجوازية التي ينتقدها في أعماله.
ولا تتوقف أهمية هذه العلاقة عند حدود الرومانسية، بل تمتد إلى نقد ثقافي عميق يتعلق بمكانة المرأة في الأدب، وسلطة اللغة، ومساحة التلاقي الممكنة بين الحساسية النسوية والمثالية الذكورية في الفن. كانت كوليه أكثر من ملهمة لفلوبير؛ كانت نداً ورفيقةً ومنافسةً. وقد شكّلت بوجودها تحدياً حقيقياً أمامه: كيف يمكن لكاتب شديد الإيمان باستقلاليته أن يمنح امرأة حضوراً أدبياً لا يقل وزناً عن حضوره؟
مأساة الحب بين التوق والتحفّظ
لم يكن غوستاف فلوبير رجلاً عاطفياً. لقد أحبّ لويز بشغف، لا شك، لكن حبه كان من نوع خاص: حبٌّ من بُعد، مضطرب، مشروط بألّا يُعكّر صفو مشروعه الأدبي. يتجلّى هذا التوتر بوضوح في رسائله إليها، كان يكتب لها بحرارة من دون أن يقترب، يشتاق من دون أن يلتزم، ويعبّر عن إعجابه بها وهو يُبقيها في مرتبة أدنى، فكرياً وعاطفياً.
رفض أن يقطع وعوداً بالحب الأبدي، مبرراً ذلك برؤيته المأساوية للعالم، حيث الموت يتربص بالحياة، والسقوط يختبئ خلف كل قمة.
في المقابل، كانت لويز كوليه تحلم بعلاقة مكتملة، متوهّجة، يُعترف فيها لا بوصفها ظلّاً لرجل، بل نِدّاً في الفكر، وشريكة في الإبداع. لكنها وجدت نفسها أمام رجل يرى في الحب قيداً لحريته. لم تكن قصتهما تتقدّم، بل تدور في مدار مغلق من التوتر والجفاء ومشاعر الغيرة، وقد ضاعَفَ غياب فلوبير المتكرر وامتناعُه عن مشاركتها أزماتها الشخصية من معاناتها.
الفن كدينٍ بارد ومقدّس
لقد قدّس فلوبير الفن لدرجة تشبه الهوس الصوفي، لكنه فنّ بلا عاطفة، بلا حميمية، بلا بشر تقريباً. كان يرى أن الإبداع الحقيقي لا يأتي إلا من عزلة شديدة، ومن كبحٍ صارم للمشاعر.
كان العمل الأدبي عنده فعلاً تطهيرياً، صامتاً، يتطلب انفصالاً شبه تام عن الذات والآخر. في إحدى رسائله يقول: «آه، الفن! يا له من هاوية!» كأن الفن هوة سحيقة لا بد أن يُلقى فيها الجسد والعاطفة وكل ما هو بشريّ من أجل أن يولد النصّ طاهراً.
ومن هذا المنطلق، رفض فلوبير الطريقة التي تكتب بها كوليه؛ فقد رأى فيها كتابة «نسائية»، مشحونة، لاهثة خلف الاعتراف، خاضعة لذوق الجمهور، لا للمثالية الفنية. أما لويز، فكانت ترى في الفن امتداداً لتجربتها، لجسدها، لأنوثتها، لألمها الشخصي. كانت تكتب كما تحب وتحب كما تكتب، وهذا ما لم يغفره لها فلوبير.
تجسيد لعلاقة متوترة بين قوتين: الذكوري والأنثوي
من يقرأ رسائل فلوبير إلى كوليه، يدرك سريعاً أنه كان يضع الفن في مرتبة أعلى من الحب، لكنه أيضاً كان يضع «الكتابة الذكورية» فوق «الكتابة الأنثوية». لقد كان يرفض أن تُكتب النصوص من داخل التجربة الشعورية للمرأة، بل يعتبرها ضعيفة، فوضوية، غير عقلانية.
فلوبير لم يخفِ عداءه الضمني للمرأة الكاتبة. لم يكن يثق بالعاطفة النسائية كمرجعية للكتابة. لقد كتب إلى لويز أن عليها أن «تتخلص من أنوثتها» إذا أرادت أن تكتب بشكل جيد، وكأن الإبداع لا يمكن أن يصدر إلا من كائن بلا جنس، أو بالأحرى من كائن ذكوري. وقد تجلّت ذروة هذه النظرة في قوله إنّ النساء لا يفكرن، بل يشعرن فقط. هذه الرؤية، وإن كانت متأثرة بزمنها، فإنها تعكس تصوراً فلسفياً عميقاً لدى فلوبير: الفكر واللغة والجمال تنتمي إلى ما هو علوي، عقلاني، متجاوز – وبالتالي، ذكوري.
لقد حاول فلوبير أن يكون معلماً أدبياً للويز كوليه، وكان يراجع نصوصها، ويقترح تعديلات كثيرة. لكنه لم يفعل ذلك من منطلق التقدير، بل من منطلق الهيمنة. كان يريد أن يشكّلها على صورته، لا أن يساعدها على أن تكون هي. وقد أخضع كتاباتها لمقاييسه الخاصة، حتى إنه رفض بعض عناوينها بوصفها «أنثوية أكثر من اللازم». لم يكن قادراً على الاعتراف بلويز كوليه كصوتٍ مستقلّ، وكوليه كانت ترفض أن تذوب في سلطة رجلٍ لا يمنحها سوى اعترافٍ ناقص، وإعجابٍ مشروط.
بين الحضور والغياب… ذاكرة من الحبر
حين انطفأت العلاقة بين فلوبير وكوليه، لم يكن هناك انفجار، بل انسحاباً تدريجياً. لم يذكرها كثيراً بعد ذلك، ولم يعترف لها بأي تأثير دائم في حياته، رغم أنها رافقته في سنوات حساسة من تكوينه الأدبي. لقد قال لها في إحدى رسائله: «أقوى الروابط تتفكك بفعل الزمن!
لأن حبل الود يبلى تدريجاً، وكل شيء يمر ويمضي، وتنمحي الذكريات من القلوب، مثلما تتجدد مياه البحار، ويمحو الموج آثار الخطى على الرمال». أما لويز كوليه، فظلّت تحبه رغم جفافه، وتعاتبه رغم نبذه، وتراسله حتى تحوّل الشغف إلى جرح، وانقلبت العلاقة من لقاءات عاطفية متقطعة إلى ذكرى خالدة، محفوظة للأبد في الحبر والورق.
بعد انتهاء هذه العلاقة، اختارت لويز أن تُحوّل ألمها إلى نصّ، فكتبت «هو»، وهو عمل أدبي صوّرت فيه فلوبير كرجل أناني مهووس بفنه، لا يعرف للحب طريقاً. وبذلك أعادت كتابة القصة من منظورها، وانتقمت أدبياً، واستعادت صوتها الذي صُودر طويلاً.
حين نعيد اليوم قراءة هذه الرسائل، لا ينبغي أن نحبسها في قالب الغرام التقليدي، بل أن نتلقاها كتجسيد لعلاقة متوترة بين قوتين: الذكوري والأنثوي، الحسي والعقلي، الأدبي والوجودي.
رسائل فلوبير إلى لويز كوليه ليست مجرد نصوص حب عاصف، بل وثيقة مريرة عن الفجوة بين الذات والآخر، بين الجنسين، وبين طريقتين في فهم العالم والكتابة. إنها تُظهر كيف يمكن أن يتحوّل الحب إلى ساحة صراع فكري، وكيف يمكن أن تفتك المثالية الفنية بالحميمية الإنسانية. في النهاية، لم ينجح فلوبير في القضاء على كوليه، ولا نجحت كوليه في تليين قلب فلوبير.
لكنها، رغم كل شيء، كتبت، قاومت، وأبقت على اسمها في وجه الريح. وربما تبقى قصتهما، بما فيها من ألم ومفارقة، درساً عن حدود الحب حين يُقاس بمسطرة الفكر، وحدود الفكر حين يُنزّه عن القلب.
صحيفة الأخبار اللبنانية



