كتب

فيليب روث في مدار «الشهوات الشنيعة»

فيما نقرأ رواية «الثدي» للروائي الأميركي فيليب روث (1933 ـ 2018)، الصادرة عن «دار المدى» بترجمة أسامة منزلجي، نلمس مرةً أخرى المكانة المركزيَّة التي تحتلُّها رواية «الانمساخ» (بحسب ترجمة إبراهيم وطفي ـــ العنوان في ترجماتٍ أخرى «المسخ»، أو «التحوُّل») لفرانز كافكا في أدب القرن العشرين، والأثر الذي خلَّفته في كتابات أدبائه.

 

في أعماله كلِّها وأحاديثه عنها في المقابلات التلفزيونيَّة والصحافيَّة، ركّز روث على الأهميَّة الكبيرة للجنس في حياة الإنسان، من النواحي النفسيَّة والاجتماعيَّة والعمليَّة. ربَّما يعود السبب في توقّف هذا العجوز عن الكتابة قبل موته بسنوات، وفقدانه الشغف بالأدب والحياة، إلى تعطُّل هذه الوظيفة في جسده… هو الذي كان يقول إنَّ الكاتب إذا كتب صفحةً واحدةً في اليوم سيُصبح لديه في نهاية العام روايةً من 365 صفحة.

ترتبط هذه الرواية بروايتين أخريين لروث، حتى إنّ بعضهم يعتبرها ثلاثيَّة رغم التباعد في زمن نشرها، هما رواية «الحيوان المحتضر»، ورواية «أستاذ الشهوة». في الرواية الأولى، يدخل أستاذٌ جامعيٌّ في علاقةٍ جامحةٍ مع فتاةٍ في عمر طالباته، ولا تتوقَّف هذه العلاقة بعد إصابة الفتاة بسرطان الثدي واستئصال أحد ثدييها، بل تعود بعد انقطاع مدة العلاج لتُستكمل بزخمٍ متجدِّد، حيث يُثيره منظر الثدي الواحد المتأرجح والندبة الورديَّة في مكان الثدي المُستأصل. أما الرواية الثانية، فيُحيل عنوانها إلى الشهوة التي تستعر في بطل الروايات الثلاث، وإلى العمل الذي يمارسه بطلها، وهو ديفيد كيبيش، الأستاذ الجامعي الذي يُدرِّس الأدب.

هذه الرواية القصيرة (حوالى 50 صفحة) ذات عنوانٍ جسديٍّ واضح، فقد أودت الشهوة التي استحوذت على بطل الرواية ديفيد كيبيش إلى أن يتحوَّل إلى العضو المُفضَّل بالنسبة إليه في جسد المرأة، على إثر خلل هرموني غير مسبوق في تاريخ الطب في إفرازات الغدد الصمَّاء، بعدما تمنَّى حدوث هذا التحوُّل وهو يقبض على أحد الثديين العارمين لحبيبته، ويشعر من فرط هيامه به «كأنَّه الكرة الأرضيَّة نفسها، كُرةٌ أرضيَّةٌ ناعمةٌ قابلةٌ للمصّ».

وعلى عكس غريغوري سامسا، الذي نام موظَّفاً بشرياً واستيقظ صرصاراً ضخماً بلا أيِّ تمهيدٍ أو مقدِّمات، تمرُّ حالة التحوُّل المرضيَّة للأستاذ الجامعي في الأدب، البالغ ثمانيةً وثلاثين عاماً، بمدة حضانة. بدأت هذه الحالة المرضيَّة بوخزٍ عند ملتقى الساقين، ثم ظهر احمرارٌ عند قاعدة القضيب توسَّع إلى المنطقة المحيطة به، قبل أن يستيقظ كيبيش بعد أيام على أرجوحةٍ شبكيَّةٍ في مستشفى، وهو يشعر بأنَّه منتفخٌ كثدي، وأنَّه فقد أطرافه الأربعة ونظره وحاسَّة شمِّه وقدرته على الإحساس بكلِّ ما حوله تقريباً، ولم يبقَ له إلا بعض القدرة على السمع والنطق لتصله بالعالم. وهو خلال كلامه مع أبيه أو حبيبته أو المشرفين على علاجه لا يتوقَّف عن البكاء، بعدما صار عاطفيَّاً جدَّاً إثر ما ألمَّ به.

وللدلالة على مركزيَّة الجنس لديه، لا تتعطَّل هذه الوظيفة عند كيبيش رغم حالته المرضيَّة. إن كان في جسده عطبٌ، فإنَّ نفسه ما زالت تختزن الرغبات والشهوات. لذلك نجده يستجيب بمتعةٍ ويتحفَّز جرَّاء التنظيف بالفوطة المبللة الذي تُخضِعه له الممرضة مِسْ كلارك، التي لم يؤثِّر في اشتهائه لها معرفته أنَّها في الخمسين من عمرها، وأنَّها قصيرةٌ وممتلئة وقبيحة، ولا حتى تخدير منطقة الإصابة. ولم يكن هناك بُدٌّ من أجل كبح جِماح شهوته من استبدالها بالسيد بروكس، إلى أن انكشف هذا الأمر للطبيب ولحبيبته كلير، التي تزوره يومياً، وقد صارت تتكفَّل بمعالجة الوضع يدوياً في البداية، ثم فموياً بعدما لمست رغبته في ذلك، إذ تمصُّ «حلمته» البارزة دوماً من مركز الثدي الذي تحوَّل إليه. ولم يمنع ديفيد من طلب الممارسة الكاملة إلَّا خجله من المتمادي الذي قد يجعله يخسر كلير، وعدم مبادرة حبيبته إلى عرض ذلك عليه أو القيام به.

بعد أشهرٍ من المعاناة في المستشفى، صار ديفيد يسعى إلى الهروب من حالته الفيزيولوجيَّة عبر ادّعاء إصابته بمرضٍ عقليّ، وخصوصاً في أحاديثه مع طبيبه النفسي الدكتور كلينغر، الذي يُشرف على حالته إلى جانب الطبيب المختصّ. خلال هذه الأحاديث، يتعمّد سماع كلامه معكوساً، فيما يجاهد الطبيب لنزع وهم الجنون من رأس مريضه قبل أن يصبح حقيقة. لا يبقى لديفيد بعد ذلك إلا محاولة التداوي بما اعتبر أنَّه سبب دائه، أي الأدب الذي غرق فيه ودرَّسه سنةً بعد أخرى، حتى صار عبر حالته غير الواقعيَّة «تجسيداً للكلمة»، و«تفوَّق على كافكا في أسلوبه». فسَّر وضعه الجديد بأنَّه يتخيَّل حالةً غير طبيعيَّة ويعيشها، بفعل الأعمال الأدبية التي تعمَّق في دراستها وتحليلها، مثل قصَّة «الأنف» لغوغول وقصَّة «التحوُّل» لكافكا، ووصلت به الحال إلى أن يتساءل: «من هو أعظم الفنانين؟ أهو الذي يتخيَّل أروع التحوُّلات، أم الذي يتحوَّل هو نفسه؟» قبل أن ينصرف عن مأساته إلى البحث عن التعزية في الاستماع إلى المسرحيات المأساويَّة لشكسبير، المُسجَّلة على أسطوانات، والطلب من كلير قراءة فصولٍ معيَّنةٍ منها مع شروحاتها من مُجلَّداته التي طلب إحضارها له من بيته. يستسلم ديفيد في النهاية لواقعه الجديد، ويسعى إلى التأقلم معه. يسأل رئيس القسم الذي يُدرِّس فيه في الجامعة عن إمكانيَّة عودته جزئياً إلى عمله، لكنَّه يُقابل بالسخرية والضحك من قِبَل البروفيسور الرصين.

ليست الشهوات أمراً عابراً في حياة الإنسان إذاً، وليس الانغماس فيها والانجراف في تيارها ذا عواقب مأمونة، إذ إنَّها تُبدِّل طبيعة الإنسان وتُغيِّر كينونته. وهذا ما دفع ديفيد كيبيش إلى إطلاق تحذيره بعد وقوع الواقعة، إذ قال من موقع العارف والمجرِّب: «لو كانت هذه قصّةً خرافيَّةً وليست قصَّة حياتي، لَحصلنا على العِبرة الأخلاقيَّة: حذارِ من الشهوات الشنيعة، فقد يحالفكَ الحظّ».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى