نوافذ

قلبٌ وعقلٌ وإرادة

اليمامة كوسى

كما هو الحال في الفترة الماضية، لا زلت لا أجد ما يدفعني للكتابة عنه بذات الشغف الذي اعتدته، ذاك الشغف الذي لا أحبّ أن أكتب أي حرف بدون أن يمسك بيدي ونسير معاً خطوة بخطوة، ليدلّني على الطريق الصحيح الذي أودّ أن أعبُر من خلاله باتجاه أفكاري ورغباتي. ورغم أنني أجيد كتابة ما يُطلب منّي بحِرَفيّة، لكنني لست ممّن يحبّون أن يُملي عليهم أحد ما يكتبون، بل وأعلم الفرق الشاسع بين ما أكتبه لأنّ أحدهم أشار إليّ بذلك، وبين ما أكتبه وكلُّ جزء في داخلي يريد ذلك.

لا يتوقف الأمر على الكتابة وحسب، فأنا أحبّ الابتلال تحت المطر عندما أريد، وأن أكسر عاداتي عندما أريد، وأن أستسلم لدموعي عندما أريد، وأن أرقص فرحاً عندما أريد، وأن أجرّب الطعام الذي لا أفضّله عندما أريد، وأن أتسرّع أو أتمهّل عندما أريد، وحتى كلام الآخرين أحبّ أن أسمعه في الوقت الذي أريد، وهذا شأن كل أمر في حياتي بشرط أن أفكّر فيه انطلاقاً من نقطة بداية تقبع في أعماق داخلي أعرفها وأشعر بها جيّداً.

الحياة ليست هكذا ستقولون، لكنني سأقول بأنّني أستطيع أن أجعلها كذلك. هل هذا غرور أو نظرة خاطئة أو محدودة للحياة البشرية بكلّ تعقيداتها؟! للحقيقة، أنا لا أراها كذلك؛ فردّات فعلنا على ما يحدث من حولنا برأيي هي التي تُحدّد مَن نحن، مهما كان ذاك الفعل الذي سبّبها. وأمّا عن قانون الفيزياء الذي يقتضي بتَسَاوي شدّة ردّ الفعل مع شدّة الفعل، فأنا لا أراه ينطبق على شؤون الحياة. أحياناً يكون الفعل أصغرياً بينما تكون ردّة الفعل عُظمى، وأحياناً أخرى يكون الفعل مهولاً إلّا أنّ ردّة الفعل تكون بسيطة للغاية. وفي الحالتين، المتحكّم الأساسي بشدّة القوّة هو المرء المُخصّص بها وحده. وطالما أنّه ذاته هو مصدر ردّة الفعل هذه، فبين يديه أزرار التحكّم بشدّاتها ويستطيع أن يضغط على أيّ منها حسبما يريد. ستقولون لي: وماذا عن الظروف الخارجيّة والناس وثقافة المجتمع والإرث الاجتماعي والضغوطات الماديّة وغيرها من هذه العناوين التي تطول قائمتها إلى ما لا نهاية؟ سأقول هنا بأنني لا أتكلّم عن الفعل أبداً؛ لأنني مدركة تماماً بأنّ أزرار التحكم بشدّاته ليست في متناول أيدينا على الإطلاق، لكن حديثي برمّته هو عن ردّات الفعل ودرجة تحكّمنا بها من خلال الإرادة.

إلى مَن سيطلب دليلاً أو مثالاً يثبت ما أقوله، فعذراً فأنا لا أستطيع أن آتي بالكثير، لكنني سأكتفي بالقول بأنّني إلى الآن لم أُرِدْ أمراً يتوقّف تنفيذه عليّ إلّا وحصلتُ عليه، واكتشفت ولا زلتُ أكتشف بأنّ الأمور التي لم أكن أريدها (وأريدها هنا بمعنى الإرادة الخالصة النابعة من الصميم والتي تتحكّم بكلّ ما يصدر عن الإنسان الواعي لها) لم أحصل عليها!

قرأت ذات مرّة عبارة تقول بأنّك إن كنت تفكّر في شيء وتحتار بين “لا” و”نعم”، فغالباً “لا” هي الأصدق؛ لأنّه عندما يكون الجواب “نعم”، فلا مكان لأي إجابة أخرى بجانبها.

الحيرة في الاختيار تعني أنه ليس هناك ما أريده، وقد تتعجبون من أمر لكنني عندما أقول بأنني أريد شيئاً ما فأنا أكون حذرة للغاية حتى في نطق الجملة الخاصة به، لأنني أوقن حقاً بأنني سأحصل عليه!

إذاً، خلاصة الحديث هي أنّ فتاةً تظنّ نفسها قويّة بما فيه الكفاية لتقول بأنّ الإنسان صُنع إرادته، ويستطيع أن يُنزِل عن الرفّ أيّ شيء مهما كان عالياً وبعيداً عن متناول يديه طالما أنّه يريدهُ، تماماً كما يستطيع أن يتحكّم بشعوره تجاه إخفاقه في شراءه أو اكتشافه أنّه مكسور أو غير صالح للاستعمال عندما يريد ذلك أيضاً.

وعلى اعتبار أنّني أجد نفسي نجحت في جعل النسبة الغالبة مّمن يقرؤون هذا الكلام يرون فيه إمّا سُخفاً أو زهواً وإما خطأً جسيماً أو مثاليةً بجرعة مفرطة؛ سأصل لما هو أبعد من ذلك وسأقول بأنّ الإرادة أيضاً لها طرق لتفعيلها بل وحتى لتشكيلها من الصفر. طريقتي تعتمد على معرفتي بأنني كائن لديه عقلٌ وقلب، يعرفان بعضهما جيّداً؛ فهما موجودان في جسدٍ واحد وتصلهما دماءٌ واحدة. المبدأ في التوقيت: أيّ واحد منهما أوقظه أولاً؟ إن أيقظتُ عقلي أوّلاً، فهو سيتكفّل بشرح الموقف لقلبي وإقناعه بألّا يزيد من سرعة نبضاته بلا داعٍ. وإن أيقظتُ قلبي أوّلاً، فهو الخبير البارع الذي يستطيع أن يمنع عقلي من إجراء عمليات حسابيّة معقّدة لا طائل منها. جوهر الطريقة يكمن في توقيت الإيقاظ وحسب؛ ما أريد إيقاظه أولاً سيستيقظ وستجري الأمور على ما يُرام.

قد يجد البعض بأنّ سياسة الإرادة هذه يوجد في لبّها تكبيل للإرادة بذاتها، إرادة القلب على حساب إرادة العقل والعكس، لكنني وجدت بأنّ ذلك ليس صحيحاً بما يكفي؛ فالقرار عليه أن يكون صادرًا من جسد واحد بقلب وعقل معاً. وكما لا جسد بلا قلب، فلا جسد بلا عقل. وعلى هذا فالاثنان سيكونان يقظين عند إرسال الأوامر إلى حيّز التنفيذ، وطالما أنهما يتشاركان كياناً واحداً ولا أحد منهما نائم، فعليهما أن يُصغيا لبعضيهما وأن يوافقا على صيغة مشتركة تُريحهما معاً.

للحقيقة كنت لمدّة أفكّر بأنّ على أحدٍ منهما إسكات الآخر بالقوّة حتى يصدر القرار الأخير فيكون بذلك صادراً عن أحدهما فقط، لكنني وجدت لاحقاً بأنّ جميع الأمور التي أردتها  هي الأمور التي اختارها عقلي وقلبي وهما راضيان معاً عن تلك الإرادة، وذلك لأجل أن أكون أنا ذلك الإنسان بكيانه السليم والمتوازن.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى