” كفافي” أم محمود درويش
كنت أقرأ المجموعة الشعرية التي ترجمها الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف للشاعر الأصل ” كفافي” الذي عاش حياته كلها في مدينة الإسكندرية التي بناها اليونانيون في مصر أصلا .
و لد هذا الشاعر المشهور عام 1863 في الإسكندرية و عاش فيها كل حياته وتوفي فيها عام 1933 وهو شاعر هام جدا ومعرفته جيدا مفيدة في فهم تطور الشعر اليوناني المحدث و اختلافه عن نظامه القديم، ويعتبر ” كافافي” من أهم الشعراء اليونانين الذي تعامل مع حركة الحداثة بإمتياز خاص به كشاعر عريق حافظ في الشكل كما في المضمون على عراقة إنتمائه للثقافة اليونانية.
كان الكتاب الذي قرأته يحمل هذا العنوان ” وداعا للإسكندرية التي نفقدها ” يضم مئة و عشرين قصيدة مترجمة إلى العربية قرأتها بإمعان أكثر من مرة وشيئاً فشيئاً بدأت أشعر من خلال القصائد ومن المقدمة التي كتبها ” ريكس وارنر ” أن المقدمة تركز في تقييمها لهذه المجموعة على مضامين القصائد الفكرية ولم تشر إلى الشكل الفني للقصائد كأساليب لغوية لها سماتها الشكلانية المتعلقة بالموسيقا اللفظية مثلا والمجازية ونظام التقنية وكأن كافافي لا يستخدم هذه المزايا الفنية الإيقاعية والمتخيلة ، إلا في بعض الملاحظات للناقد حول هدوء بعض القصائد أو صوتها العالي ولكن من دون أن يحدد كيف حدث ذلك فنياً في الشكل وليس في المضمون فقط . وهذا ما دفعني فوراً إلى مقارنة قصائد كافافي بقصائد للشاعر المعروف محمود درويش إذ كانت مجموعته المسماة ” ورد أقل ” في متناول يدي مباشرة و الصادرة عام 1986 عن دار ” توبقال ” المغربية – في الدار البيضاء – و اخترت من دون بحث طويل أو تردد ذلك أن قصائد المجموعة متشابهة جدا من حيث الشكل الفني المتعلق بالوزن العروضي والقافية الواحدة . خذوا هذه القصيدة مثلا والتي تحمل هذا العنوان (( عناوين للروح خارج هذا المكان ))
” عنَاوِينُ لِلرُّوح خَارِجَ هَذَا المَكَانِ. أُحِبُّ السَّفَرْ
إلَى قرْيَةٍ لَمْ تُعَلِّقْ مَسَائِي الأَخِيرَ عَلَى سرْوِهَا. وأُحِبُّ الشَّجَرْ
عَلَى سَطْحِ بَيْتٍ رَآنا نُعَذِّبُ عُصْفُورَتَيْن، رَآنا نُرَبِّي الحَصَى
أَمَا كَانَ فِي وسْعِنَا أَنْ نُرَبِّي أَيَّامنَا
لِتَنْمُو عَلَى مَهلٍ فِي اتِّجَاهِ النَّباتِ؟ أُحِبُّ سُقُوطَ المَطَرْ
عَلَى سَيِّدَاتِ المُرُوجِ البَعيدَةِ. مَاءٌ يُضِيءُ. وَرَائِحَةٌ صَلْبةٌ كَالحَجَرْ
أَمَا كَانَ فِي وسْعنِا أَنْ نُغَافِلَ أَعْمَارَنَا،
وَأَنْ نَتَطلَّعَ أَكْثَرَ نَحْوَ السَّمَاءِ الأَخِيرَةِ قَبْلَ أُفُولِ القَمَرْ؟
عَنَاوِينُ لِلرُّوحِ خَارِج َهَذَا المَكَانِ. أُحِبُّ الرَّحِيلْ
إِلَى أَيِّ رِيحٍ .. وَلَكِنِّني لاَ أُحِبُّ الوُصُولْ ”
و لو راجعنا المجموعة كلها لوجدناها جميعا ذات إيقاعات منظمة تنتمي إلى العروض العربية ببحورها المتنوعة و بقوافيها الواحدة لكل قصيدة. لا بد أنكم لاحظتم أن للشكل الفني اللفظي و الإيقاعي نظاما موسيقيا في الدرجة الأولى و أن لا دور له إلا في إضفاء نوع من الزينة الصوتية و الشكلية إضافة إلى المجازات العديدة الأنواع . و هذا ما لم نجده في قصائد ” كافافي” – لأنها مترجمة – و لكن الناقد الذي كتب المقدمة لمجموعة ” كافافي ” كان يركز بإستمرار في دراسته وتعليقه على النصوص و كأن لا أشكال فنية صرفة لها كما في القصيدة العربية التي اخترناها والتي لا مثيلاتها في قصائد المجموعة كلها …
هل يمكن هنا إذن أن نطرح هذا السؤال : ” هل كان لقصائد كافافي ” اليوناني نظام فني خاص للأشكال التي تتميز بها قصائد كافافي عن صفات عروضية للإيقاعات الصوتية وعملية التقنية الواحدة أو المتنوعة مثلا في بعض القصائد العربية كما في الموشحات أو في القصائد ذات القوافي المتنوعة حسب المقاطع المتساوية حجما في القصيدة الواحدة …
الذين يعرفون اليونانية سمعتهم يقولون لنا نحن الذين لا نعرف اليونانية أو اللغات الأجنبية الأخرى أن الإيقاع الموسيقي ما تزال تلك اللغات تحتفظ به مع بعض التغيرات و الإبتكارات الطارئة عليه فالشعر الياباني مثلا له نظامه الإيقاعي الخاص به و المسمى ب ” الهايكو ” و الذي تغير مع الحداثة التي طرأت على الثقافة اليابانية المتعلقة بالشعر أو الرسم أو الموسيقا، قد عاد أكثر الفنانين إلى الإحتفاظ بهذه الأشكال التقليدية المتوارثة منذ ألاف السنين، وأن الإنتاج الفني هناك لم يفقد تماماً وبقطعية تامة مورثاته التي ما يزال معظم سكان تلك البلاد يحبها ويتعامل معها بالرغم من هجوم الأشكال الأوروبية المحدثة على الإبداع الصيني أو الياباني والهندي وغيرها … فما عسانا نصنع نحن الشعراء العرب هل نتخلى عن نظامنا العروضي العريق و نكتفي بما سميناه ” قصيدة النثر”؟..