لا يأس من «الحلول الإبداعية»: واشنطن تستعجل إنهاء الحرب …لدى طرفَي القتال في قطاع غزة، إسرائيل والمقاومة، كما لدى الوسطاء، أي الولايات المتحدة ومصر وقطر، أكثر من سبب لإنجاح صفقة تبادلٍ للأسرى تخفي في طيّاتها الصفقة الأساسية التي يبحث عنها الجميع: إنهاء الحرب.
لكن، بين ما يجب وما يمكن، هوة قد لا يتمكّن الأطراف من جسْرها، من دون تقديم تنازلات مؤلمة. ففي لقاء باريس، الذي جمع، بقرار وضغط أميركيَّين، الوسيطين القطري والمصري والطرف الإسرائيلي، نجحت واشنطن في توحيد مضمون الوساطة، عبر التوافق على خطوط عامة، هي بطبيعتها حمّالة أوجه، كونها لا تقدّم التزامات نهائية، لكن أهمّ ما فيها، أنها انتزعت من إسرائيل، الممثّلة برئيسَي «الموساد» و«الشاباك»، قبولاً مبدئياً بتلك الخطوط، في انتظار الإجابات التي ستَرِد من حركة «حماس»، وتحديداً قادتها في الميدان.
لكن ما بدا مفارقاً، هو إشاعة أجواء تفاؤلية بهدف التأثير، على ما يبدو، في موقف الحركة التي لم تكن ممثَّلة في اللقاء، ورفع سقف توقّعات الرأي العام من وساطة يمكن تشبيهها بإقامة حفل زفاف للعريس والضيوف، من دون العروس. مع ذلك، فالأكيد إلى الآن أن اجتماع باريس ظهّر توجّه واشنطن إلى الدفع قُدماً باتفاق ما، بعدما وصل الخيار العسكري الإسرائيلي إلى طريق مسدود، وبات استمرار القتال هدفاً في ذاته، في ضوء رفض دولة الاحتلال الإقرار بعجزها.على أيّ حال، وممّا جرى تسريبه، يبدو واضحاً أنّ ورقة باريس أغفلت الشرط الرئيسي الذي تتمسّك به «حماس»: وقف الحرب، وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة.
وفي المقابل، بحث المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر مخرجات اللقاء التي لاقت قبولاً مبدئيّاً – يبدو أيضاً أنه مشروط -، علماً أن تركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تسمح بتمرير اتفاق، يتضمّن شروط «حماس». لكن الحركة لا تظهر في وارد الرضوخ لمطلب متطرّفي حكومة بنيامين نتنياهو، أي صفقة تبادل أسرى، مع هدن مؤقتة، على أن تعود الحرب لتستعر لاحقاً. بتعبير آخر، لن ترضى «حماس» بأن تتنازل عن ورقة ضغط بمستوى الأسرى الإسرائيليين، مكتفيةً بعائد غير كامل وغير مثمر على صعيد الحرب نفسها، رغم أهمية هدف إطلاق الأسرى الفلسطينيين.
لن يرفض الجانب الفلسطيني «الحلول الإبداعية» لإنهاء الحرب من دون الإعلان عن إنهائها
وعليه، كيف للولايات المتحدة، بمعونة الوسيطين القطري والمصري، أن تجسر الفجوات؟ المهمّة لن تكون سهلة، إذ إن إسرائيل لن تكون غير قادرة على وقف الحرب عبر اتفاق دائم، لما يعنيه ذلك من إقرار بالفشل، وبالتالي إضرار بـ«مصالح الدولة» – وهو ما يتفهمه الوسيط الأميركي -. وفي حال اضطرّت إلى مثل هذه الخطوة، فهي لن تقدم عليها في العلن، وعبر التزامات واضحة كما كان يحدث في أعقاب جولات القتال السابقة، علماً أنه حتى في تلك الجولات، كانت ترفض الإقرار بأنها توصّلت إلى اتفاق، وتصرّ على أنها ستقابل وقف القصف بوقف قصف مقابل. كما أن على الأميركيين أن يتعاملوا مع هواجس نتنياهو، الذي يخشى انفراط ائتلافه وإنهاء حكمه، في حال الإقدام على صفقة من هذا النوع.
أمّا على الجانب الفلسطيني، فسيكون على واشنطن تطمين حركة «حماس» إلى أن الواقع الميداني مُقبل على وقف دائم لإطلاق النار، لن يرافقه إعلان رسمي، بل ويصاحبه رفض إسرائيلي معلن ومتشدد لوقف الحرب. كذلك، عليها تطمين الجانب الفلسطيني في ما خصّ ترتيبات اليوم التالي، إلى أن الحرب المباشرة لن تهدأ لتحلّ محلّها الحرب الأمنية وغيرها من البدائل المتطرّفة، من عمليات خاصة واغتيالات وحصار ومنع إعمار وتقسيم للقطاع إلى قطاعات.
إزاء ذلك، ورغم كثرة الشكوك في قدرة واشنطن على تذليل تلك العقبات، لا يخلو الواقع من أسباب تدفع إلى التفاؤل، استناداً إلى الآتي:
– لم يَعُد للخيار العسكري جدوى من جانب إسرائيل، ما يعني أن الأخيرة ستكون مجبرةً على البحث عن بدائل للحرب، ستعني انتهاءها عمليّاً، وإن من دون الإعلان عن ذلك.
– المرحلة التي وصلت إليها الحرب، تدفع تلقائيّاً إلى تخفيف كثافة القتال فيها، إلّا بما يخدم العملية التفاوضية نفسها.
– بات الوقت ضيّقاً جداً أمام واشنطن، للدفع بترتيبات مرتبطة برؤية أشمل لقضايا المنطقة وتحدياتها، التي أضرّتها الحرب، وجعلت أكلافها أعلى على المصالح الأميركية، وهذا ما يعني جدّية التدخّل الأميركي في وساطة جاءت بعد يأس من إمكانية نجاح إسرائيل عسكريّاً، كما أمِلت إدارة جو بايدن ابتداءً.
– لن يرفض الجانب الفلسطيني «الحلول الإبداعية» لإنهاء الحرب من دون الإعلان عن إنهائها، وهو في الأساس ليس الطرف الذي عليه أن يتنازل أو يدوّر الزوايا، كما هو حال إسرائيل. إذ في إمكانه التعايش مع تسميات مختلفة لوقف القتال، مهما تمكّنت هذه التسميات من تخفيف صورة فشل إسرائيل أمام جمهورها. أمّا لجهة ترتيبات اليوم الذي يلي الحرب، فقد تكون الحرب فرصةً لتصويب ما كان قبل السابع من تشرين الأول الماضي، لناحية ابتعاد المقاومين – مع الاحتفاظ بمكانتهم ومنعتهم – عن السلطة ومفاسدها، الأمر الذي يعبّد طريق الحلّ، نسبيّاً، أمام ترتيبات البيت الفلسطيني.
في المحصّلة، إن لقاء باريس يُعدّ خطوة تمهيدية لازمة قبل حلٍّ لا تزال العراقيل أمامه كبيرة ومتعدّدة؛ إلّا أن جدّية واشنطن هذه المرّة، وإدراك تل أبيب فشل الخيار العسكري، ومصلحة «حماس» في إنهاء الحرب، كلها تدفع إلى التفاؤل النسبي.
صحيفة الاخبار اللبنانية