تُعتَبَرُ “لماذا” أداةَ استفهام كغيرها من أدوات الاستفهام الأخرى؛ إلا أنها لم تكن كذلك في قاموسي يوماً، فأنا أُفضّلها عليهم جميعاً وأعتبرُها أهمُّ ما قد يُفتَتح به أي سؤال مهما كان.
تشغلني هذه ال”لماذا” كثيراً في كل المواضيع، ربما لأنني أؤمن بأن الدوافع هي أهم بوصلةٍ توجّه حياتنا و تتحكم بسلوكنا.
وعلى اعتبار أنّ ما يحدث في العالم اليوم لا يمكن أن يكون في معزلٍ عن سؤالي المعتاد؛ كان عليّ أن أقف أمام كل هذه الشاشات وهي تتسابق لالتهام الأخبار وبثّها، وأتساءل بحَيرة: لماذا؟؟
لماذا الحرب؟!
وعلى الرغم من كوني أشعر بأن عدم الخوض في السياسة بات رفاهية لا نستطيع امتلاكها، إلا أنني لن أنظر إلى ما يحدث بكونه مؤطراً بإطار سياسي أبداً، ولعلّي سأعاتب من ينظر إليه من ذلك المنظور وحسب، فنحن عرفنا الحرب جيداً وذقنا من ويلاتها ما يكفي لنعلم بأن أحجار الشطرنج لا يسعها أن ترى الأيادي التي تلعب بها أو ربما ليس لديها الوقت الكافي للنظر لأعلى، فهي ستُجاهد لتبقى على الرقعة وحسب!!
وبما أنني لم أكن أبحث عن إجابة لسؤالي في ساحات السياسة ولا بين أهلها، ظهر أمامي كتاب من قلب بحار علم النفس، تلك البحار التي لطالما أحببت الغرق في أعماقها، كتابٌ بعنوان “لماذا الحرب؟” وهو مناظرة في النصف الأول من القرن العشرين بين الفيزيائي آلبرت آينشتاين وعالم النفس سيغموند فرويد، وهما لمن لا يعرفهما من أبرز علماء ذلك القرن إن لم يكونا أبرزهم.
ما دفعني لقراءته فعلاً هو رغبتي الملحّة في معرفة ذلك المزيج الفريد الذي سيكون عليه من خلاصةِ عَقْلَي هذين الرجلين.
لقد شعرت بأن هذا الكتاب سيكون مفصّلاً على مقاس سؤالي تماماً فآينشتاين مكتشف النسبية – إن صح تعبير اكتشاف- اختار الخوض في هذا الموضوع مع عالم نفس لا مع مفكر سياسي أو مع مختص في العلاقات الدولية مثلاً، كان يريد أن يعرف ما يعنيه العنوان (بالنسبة إلى) فرويد تحديداً!!
أورد فرويد ما توصّل إليه علماء التحليل النفسي في تلك الفترة بما سُمّي ـ نظرية الغرائز- والتي تقول بأنّ “الغرائز اثنتان.. الأولى غريزة البقاء والاتحاد والثانية غريزة التدمير والعدوانية، وصعوبة الفصل بينهما هو ما منعنا طويلاً من الاعتراف بهما، ويمكن القول بأن إحدى هاتين الغريزتين يستحيل أن تعمل بمعزل عن الأخرى أي أن أيّ تصرف سيكون ممكناً شريطة وجود توليفة من هذه الدوافع المركبة”.
وفسّر فرويد هذا الكلام بقوله: ” عندما يُحرَّض البشر على الحرب فإنه من الممكن أن يكون لديهم قائمة كاملة من دوافع التأييد، بعضها نبيل والآخر دنيء، بعضها مُعلَن واضح وبعضها لا يذكر أبداً، ولا حاجة لذكر هذه الدوافع ولكن مما لا شك فيه أن التّوق إلى التدمير والعنف واحدة منها، فالوحشية التي لا حصر لها في التاريخ وفي حياتنا تشهد على وجود هذه الغريزة بل وعلى قوتها”.
كانت النقطة الأكثر أهمية في هذه المناظرة هي تحديد العلاقة بين الحق والقوة وقد عمد فرويد إلى استبدال كلمة قوة بكلمة أقسى وأجرأ ألا وهي عنف!..
سيستنكر الجميع هذا الكلام متسائلين: ألا يوجد قوة بلا عنف؟
ولكن أليس من الدهشة بمكان أن نرى بأن بيع الأسلحة وشنّ الحروب على سبيل المثال لم يُرفض رفضاً قاطعاً حتى يومنا هذا!
فحتى المنظمات التي شعارها تحقيق السلام العالمي اليوم تضع استخدام القوة” العنف” كإحدى خياراتها في سبيل تحقيق ما تزعم أنها ترغب بتحقيقه..
يبدو لنا للوهلة الأولى بأن الحق والعنف نقيضان ولكننا إن نظرنا إلى التاريخ ومن ثم إلى وجهة نظر فرويد التي تقول بأن الحق والعنف أحدهما ناجم عن الآخر نجد بأن كلامه قد يحتمل الصحة…ولو فكرنا بأن أمة ما مستعدة لشن الحرب على أخرى.. ألا يجب على الأخيرة أن تتسلح وتستعد للحرب كضرورة لا مفرّ منها وكحق من حقوق الدفاع عن نفسها؟!
أراها حلقة مفرغة لا يُعرَف لها بداية من نهاية!
لم يهتم إينشتاين بكل تلك النظريات بل أراد إيجاد حلول حقيقية لهذه المسألة الملحّة، فكان سؤاله الأهم :”هل توجد طريقة تنقذ البشرية من خطر الحرب؟”.
كان ردّ فرويد على ذلك مقتضباً وربما مُشائماً نوعاً ما فقد استوت وجهة نظره على حل وحيد مفاده بأنه “من غير الوارد أن نقضي على الغرائز التدميرية لدى البشر بل يجب أن نحاول الإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى ترجمتها إلى حرب”.
ما يؤلم حقاً هو أنه وبعد كل تلك العقود التي مرت على حديث هذين العالمَين لا أجد أن العالم استطاع خلق لغة أخرى يتكلم بها غيرَ لغة الحرب،
وقد استخدمتُ تعبير الإيلام هنا لأنه وعلى الرغم من كل ما سبَرته هذه المناظرة من أغوار النفس البشرية فإنها لا تعني إيجاد مبرّرات للحرب.
فنحن لا زال علينا أن ننبذ الحرب ونثور ضدّها لأن الجميع له حق في الحياة، والحرب تضع حدّاً لهذا الحق.
الحرب تفتكُ بأشياء مادية ثمينة أنتجتها البشرية.. تضع الإنسان في مواقف مهينة…وترغمه على زهق روح إنسان آخر..
وإنني مهما فكرت لن أجد خسائر قد تخلفها الحروب أسوأ من خسارة الإنسان لإنسانيته!!
وختاماً.. أعلم بأنّ النقاش من وجهة نظر علم النفس في مسألة عمليّة كهذه لا يعدو عن كونه مجرّد تحليلات، إلا أنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب إلى أبعد الحدود ورغبت في أن أنقل رأيي به لعلّ أحدهم يصل معي إلى هذه العبارة ويرغب بقراءته أيضاً.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة