في صباح كلّ يوم وأنا في طريقي إلى المشفى أرى عدداً كبيراً من الناس يتزاحمون في الشوراع قاصدين الوصول إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم.
وعلى حين غرّة أجدُ نفسي دون وعيٍ أستذكرُ نوعاً قديماً من الألعاب كنت أستمتعُ بمشاهدتها على التلفاز وأنا طفلة.
اللعبةُ تتجسّدُ في مُحاولةِ إيجاد الفروقات بين لوحتين متجاورتين قبل انتهاء عدّات المؤقت الذي كان يضعهُ مقدّموّ ذلك النوع من برامج الألعاب والمسابقات التلفزيونية.
يبدو لي بأنّ لعبة إيجاد التشابهات والفروقات في أعماقِ اللوحات البشريّة التي أتأمّلها كل يوم، ومحاولة تقصّيها في أنماط الشخصيّات التي ألقاها في كل مكان تروقني كثيراً.
ويمكنني القول بأنّ تطبيقها على الحياة الواقعيّة بات أكثر إمتاعاً وإفادةً بالنسبة إليّ عمّا كان عليه في طفولتي، وربما سيتجلّى تحقيقُ أحد أحلامي ذات يوم عند اكتمال التصنيف العامّ الذي يُعِدُّهُ رأسي لنماذج البشر وتكويناتهم النفسيّة المتباينة إلى حدّ أن أصلَ إلى درجةٍ أستطيعُ معها توقّع سلوكيّاتهم التالية.
أعلمُ انّهُ يبدو حلماً هزيلاً جدّاً إلّا أنني أراه يصقلُ نفسهُ يوماً بعد يوم بطريقة تطوّريّة عفويّةٍ تدفعني للاندهاش حقاً!
فمع مخابرتي لدائرةٍ لا بأس بها من الناس سواء الذين أعرفهم معرفة سطحيّة أم الذين أعرفهم بحقّ، أو حتى أولئك الذين يمرّون في يومي بشكل عابر كالأساتذة والمرضى وصاحبي المحالّ التجارية والمكتبات وغيرهم.
كلّ هؤلاء يجعلون قائمة تصنيفاتي أمتن وأكثر تنظيماً يوماً تلو آخر!
وبالعودةِ إلى لعبةِ تمييز نقاط التشابه والاختلاف؛ بدت أمامي نقاطُ التشابه في لوحةِ المارّة ذلك الصباح متمثّلةً بهرولتهم في نفس الاتجاه، بشكل يوحي لمن يراقبهم من بعيد بأنّهم لا يرون في الشارع سوى أنفسهم، فتراهم يتجنّبون بعضهم البعض كما لو أنّهم أجزاء من انحناءات الطريق ليس إلّا.
طلّابٌ صغار بثيابهم المدرسيّة الموحّدة.. شبابٌ وشابات يحملون حقائبهم بين أيديهم أو على ظهورهم.. بالغون يمسكون أكياساً وخبزاً.. وبعضُ العجائز يتناثرون هنا وهناك وهم يحاولون تجاوز البقيّة بكل البطءِ الرّصين الذي تمنحهم إيّاه أقدامهم المُتعبة..
من نقاط التشابه التي لاحظتها أيضاً كانت تلك الأبخرة المتصاعدةُ من أفواههم وأنوفهم دلالةَ على أنّهم أحياءٌ يتنفّسون باستمرار في ذلك الجو الشتويّ المائل للبرودة.
وأمّا عن الفروقات بين مكوّنات تلك اللوحة فربّما يصعبُ عليّ أن أجزم بصحّتها، إلّا أنّني أُسلّي نفسي بتخمينها في كل مرة أنتظرُ فيها الحافلة عند الموقف، وذلك إمّا من خلال تأمّلِ سماتهم الخارجية الظاهرة للعيان، أو من خلال محاولة استشفافِ سماتهم الداخلية بحديث روتينيّ بسيط.
لربما سيكون من الغريب أن أقول بأنني أستطيعُ تمييز تلك الأشكال الغيميّة التي تنبثقُ من رؤوسهم وتتجمّعُ فوقها بكثافةٍ، مُنذرةً بالأحوال الطقسيّة المتباينة التي تمرّ بأعماقهم ثمّ تتساقطُ على شكلِ تعابير وجوههم وأنماطِ مشياتهم وتحرّكاتهم.
أجدني ألحظُ في الغيمة المتشكلة فوق رأسِ أحدهم غضباً .. أو ربما حزناً دفيناً أو يأساً.. وفي غيمةِ آخر ألحظُ انتظاراً طويلاً أو ربما أملاً.. أو حماسةً.. وغيرها الكثير من المشاعر والصفات التي تُنبئ بالصنف المختلف الذي يندرجون تحتهُ على اختلاف أشكال تلك الغيوم ومحتواها.
وهكذا أبدأُ بالتفكير في أسباب تلك المشاعر التي كوّنت لديّ ذلك الانطباع عن أولئك الناس، فأُرتّبها في رأسي وأحصرها حتّى أنتهي بالسبب الأكثر إقناعاً وتماشياً مع تفاصيل اللوحةِ كاملةً لأجل أن يتكفّلُ خيالي بتأليف قصة ملائمة عنها.
أقول لنفسي دائماً عندما تتلاشى سلسلة الخيالات تلك:
ما أغربَ تلك الغيوم.. وما أكثر قصصها!
ربما ليس علينا أن ننظرَ إلى تصرّفات وأقوال وردّات فعل الناس من حولنا ونحن غير مُدركين أو مقدّرين لوزن تلك الغيوم التي تجثم فوق رؤوسهم ممثّلةً للأفكار والمشاعر التي يعيشونها في لحظتهم الحاليّة.
وبالمقابل بدل أن نزيد على أعبائهم عِبئاً؛ لنُخَفِّفْها عنهم بتحيّةٍ غير متوقّعة تُبهجُ قلوبهم، أو بابتسامةِ مُطَمئِنة لا تكّلّفنا شيئاً، بل تزيدنا جمالاً وقد تعني لهم الكثيرْ.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة