
أثناء عملي الصحفي في سوريا، كنتُ أسعى إلى إجراء لقاءات مع المسؤولين بدافع السؤال عن بعض السياسات العامة وما يستجد من قضايا، إلا أن تلك اللقاءات لم تكن خالية من التقييد والإخضاع. غالبًا ما كان يرافقنا مدير المكتب الإعلامي، الذي لم يكن دوره تسهيليًا بقدر ما كان وظيفته الحقيقية هي حماية المسؤول من أي سؤال قد يُعدّ محرجًا أو “ينال من هيبة الدولة”، حسب التعبير السائد آنذاك..
في إحدى المرّات، فوجئت بتعريف المكتب الصحفي لي أمام أحد الوزراء بأنني “إنسانة وطنية تحب الوطن”. بدا التعريف غريبًا، وكأن الوطنية شرط مسبق لإجراء الحوار، أو كأن الولاء المعلن ضرورة لتبادل الكلام. لاحقًا فهمت أن الوزير بعثي متشدد، وأن اللقاء لا يُمنح إلا بعد أداء طقوس لفظية تمجّد الوطن، وتُعيد إنتاج لغة التقديس.
بدأت بسؤاله عن الصعوبات التي تعيق تنفيذ المشاريع، فجاء الرد قاطعًا: “لا صعوبات، فالوطن مقدس، والحياة جميلة فقط في هذا الوطن المقدس”. وحين سألته عن علاقة التقديس بجوانب العمل والإدارة، أجاب بأن الإنسان إذا قدّس من قلبه، تسهّلت أمامه المشاريع وتحققت الأهداف، ثم ألقى محاضرة طويلة استغرقت 19 دقيقة عن “تقديس الوطن” تخللها بعض العبارات حول التنمية البشرية وضرورة الأمل والتفاؤل ..ووو. كلما كنت أقاطعه محاوِلة العودة إلى النقاط العملية، كنت أُصطدم بمزيد من الشعارات المؤدلجة.فهذا الخطاب البعثي كان ضرورة لإثبات الانتماء والحفاظ على الكرسي..
المفارقة أن هذا الخطاب التقديسي الذي كان سمة النظام السابق، لم يتلاشَ بعد التغيير في بنية السلطة، بل تبناه من كانوا سابقًا من أشد المعارضين له. بات بعضهم اليوم يكرّس الخطاب ذاته بحجّة “أن الدولة تتشكّل”، ويرى أن النقد في هذه اللحظة نوع من الخيانة أو التشويش، فهل هناك وطن يُبنى بدون نقد وملاحظات، هل هناك وطن يتأسس على قواعد علمية متينة دون ملاحظات دائمة..هي بالفعل تساؤلات مشروعة وتحديدا للجماعات التي نبذت المرحلة السابقة بسبب التقديس والتقييد، وأرادت مرحلة جديدة..
رغم ما خلفه الدمار من ألم وخراب، لعلّ المرحلة الراهنة التي تمر بها سوريا والمنطقة تحمل في طيّاتها فرصة جديدة، فرصة لإعادة بناء الوعي، بعيدًا عن الشعارات المعلّبة والتقديس الأجوف. لقد آن الأوان للإدراك بأن عصر العقائد المغلقة والخطابات الشعاراتية قد ولّى، وأن ما تحتاجه الشعوب اليوم ليس الولاء الأعمى ولا التمجيد الفارغ، بل العمل الجاد والمسؤول، والاعتراف بالأخطاء، والقدرة على مواجهة الحقائق بجرأة دون مواربة..
إننا أمام منعطف يفرض علينا تجاوز منطق القداسة السياسية والاصطفافات العقيمة، والانفتاح على أدوات الفهم والبناء الحقيقي. ففي نهاية المطاف، لا يُنهض الأوطان سوى العلم، لا الولاء، ولا تُصان الكرامة سوى بالعدالة والكفاءة، لا بالخطاب العقائدي..
بوابة الشرق الأوسط الجديدة