مسرحية (كاستينغ) الجسد مفضوحا على المسرح : سينوغرافيا دمجتنا مع الخشبة!
خاص
في مسرحية (كاستينغ) يبدو كلُّ شيء هادئاً على الخشبة : المخرج السينمائي ( الفنان عامر علي) يجلس على طاولته يقلّب صفحات في العالم الافتراضي على جهاز (لابتوب)، نلاحظ العوالم التي يتابعها على شاشة تمتد على جدران المسرح الثلاثة، وربما تظهر على وجوهنا نحن (في الجدار الرابع) ولا نعرف.
هذا الهدوء مفتعل في الرؤية الإخراجية وسينوغرافيا النص، مرده إلى سببين، الأول : شكلي يتعلق بهدوء الصالة وجلوس المتفرجين في مقاعدهم، والثاني أن كل من شغل مقعده في الصالة سيتجرع أجواء العمل من خلال دخول غير مباشر للصور في لاوعيه ، ثم يسأل : ماذا بعد ؟!
سؤال : لماذا تأخر العرض ؟ جواب : لم يتأخرْ، نحن المتفرجون نتوهم أن ثمة تأخراً في العرض، لكن المسألةَ تحتاج إلى مساحة زمنية قبل اللحظة التي حدد فيها موعد العرض، وذلك بهدف إدخال المتفرج في أجواء المسرحية، أو ربما هو شكل جديد من أشكال استنفار الجمهور .
بدأ العرض في الموعد المحدد ، وكانت حركة الجلوس قد توقفت في الصالة :
نحن في أجواء محاولات مخرج سينمائي يعمل على استكمال أدواته لمشروعه، وهي عملية انتقاء طاقم العمل (الممثلة)، وقد اشتغل عليها مسرحيون عرب في أكثر من لون، لكن هذه المرة عليك كمتفرج أن تنتبه، فالأحداث ستأخذك إلى نهاية غير متوقعة ، غير عادية، فيها كشف واكتشاف وفضيحة!
تدخل فتاةٌ (الممثلة دلع نادر)، وهي من اللواتي يحلمن بالنجومية ، ويعتقدن أن بالإمكان الإيقاع بالمخرجين للحصول على دور ، لكنها في الوقت نفسه إنسانة لها مشاعر ومعاناة وحلم ، يرفض المخرج ، ويهم بالخروج يائساً، فقد انتهى من استعراض جميع الزائرات وكلهن لا يصلحن..
ترجوه الفتاة، تتمسك به، تطلب فرصة، يتردد، تقنعه فيرضخ، يعطيها فرصة قصيرة (5 دقائق) ، وهنا تبدأ اللعبة المسرحية في سياق درامي ممتع.
تتكرر الأجوبة ، لكن المخرج يستحثها، يحاول تفجير ما عندها، فإذا بموجة التداعيات الصادقة تبدأ عند الفتاة بتجارب بسيطة ومعاناة كبيرة، تستجر هذه التجارب تداعيات درامية تؤثر في المخرج، فإذا هو في صلب الحكاية ، يتحول إلى جزء منها، بل يصبح الحكاية كلها. حكاية تعرض علينا في آلية كتابة درامية ساحرة، تغطي العوالم (الداخلية) على المسرح، وتفضحها، وعندما تنتهي المسرحية بدخول زوجة المخرج ( الممثلة مجد نعيم) نكتشف نجاح لعبة (الإيهام) في أداء الشخصية .
تبدأ الزوجة بإعادة ترتيب البيت، في وقت ترتدي الفتاة ثيابها (نكتشف أننا أمام نوع من الفصام يعيشه المخرج جو) الزوجة لا تشاهد الفتاة ، الفتاة تخرج من اللعبة، الحدث كله لم يكن موجوداً !
ثلاثة أشياء تقدمها مسرحية (كاستنغ) فتنجح فيها :
أولها : استخدام أمثل لطاقات الممثلين : الفنان عامر علي قدّم خلاصة روحه الفنية ومشاعره في عرض تجاوز الساعة، فسحرنا في لعب الدور. كان حاراً في أدائه، نجماً مسرحياً جعلته الخشبة يتألق أكثر من تألقه أمام الكاميرا، فنان أبدع في أدواره التلفزيونية، وعلى خشبة المسرح جعلنا نستعيد كل أدواره التلفزيونية لنعلن أن عامر علي، لم يأخذ حقه بعد، فنانٌ كبيرٌ على الخشبة، فنانٌ معطاء في الدراما، لكن الخشبة كشفت طاقاته الرائعة في التمثيل.
الفنانة دلع نادر، موهبة تقفز إلى صدارة الخريجين الشباب، سألتُ نفسي “كيف تمكنت من الانتقال من طالبة تخرجت حديثاً إلى محترفة قديرة”؟
قدمت دلع نادر كل الحالات النفسية، قدمت شخصية متناقضة، قدمت أنوثتها ، قدمت إنسانيتها، وطموحها . انتقلت من البساطة إلى التعقيد، فأدهشت، هل هو النص، أم المخرج، أم الدور؟” جواب أسئلتي كان حصيلة ما شاهدناه على الخشبة لهذه الفتاة الطموحة.
الفنانة مجد نعيم، دور صغير، لكنه لم يكن عادياً، أدته بثقة في النفس، وشعرنا أن دورها كان موجودا من البداية وكأننا ننتظرها، هو دور صغير في مساحته كبير في كشف اللعبة، وهي لعبة النص التي أعدت للدور بعداً يستحقه .
ثانيها : الجرأة على المسرح، والجرأة هنا فنية في استخدام الأدوات ، وإنسانية في التعامل مع الجسد على الخشبة . ولم تكن الجرأة في أداء الممثليْن المتعلق بخلع ملابسهما وإظهار تفاصيل الجسد مجانية، فهي تلتفت النظر لأول وهلة، فنظنها استخداما للإثارة، ثم نكتشف كجمهور أنها ليست مجانية . بل هي من صلب النص ولا تنفصل عنه فنتعاطف مع الحالة دون أن تشغلنا تفاصيل الجسد.
ثالثها : حضور السينما على المسرح وهي نوع من الجرأة والحرفية معا: نُقلت السينما بأجوائها وأدواتها إلى الخشبة ، فالجدران شاشة، واللوكيشن يتغير بسرعة ليواكب لعبة الإيهام المسرحي، فننتقل بسرعة من المكتب إلى البيت دون حاجة لتغيير الديكور والإكسسوارات، كما اعتدنا من قبل.
إذن نحن أمام بناء مسرحي مدروس بعناية من الألف إلى الياء، وهذا النوع من العروض يدفعنا إلى السؤال إلى إمكانية عرض مسرحيات من هذا النوع في دار الأوبرا حيث الأدوات متوفرة والجمهور أكبر، لتكون المشهدية بحجم الفكرة والطموح الذي قدّم للجمهور .
شكرا سامر إسماعيل، وكل الكاست الذي بنى كاستنغ وقدمها لنا في تلك الساعة الرائعة من عمرنا المسرحي..