يبدو وكأن الدكتور فؤاد شربجي، وهو واحد من آباء دراما البيئة الشامية التي رافقت العقود الأولى لنشوء التلفزيون، قد ضجر مما شاهده من أعمال درامية عن (بيت أهله/ الشام) من سحب خناجر وصراخ و(بوجقة) وشراويل ونساء يغسلن أقدام أزواجهن في وقائع لا علاقة بالصورة الحضارية للشام، لا في زمانها ولا في مكانها، هذه الصورة كانت ظهرت في المسلسلات الشامية التي تترى على الشاشات العربية من دون أن يردها أحد.
وهذا العام فاجأنا بتقديم نص جديد عنوانه (بيت أهلي)، أراد منه مجموعة أهداف، كنت أشرتُ إلى أحدها في مقال سابق، أجمل ما في هذا النص أنه يحاكي إيقاع مدينة ونبضها في لحظة تاريخية محددة من الصراع مع الاحتلال الفرنسي وقع فيها اغتيال المناضل الوطني عبد الرحمن الشهبندر، أي عشية الاستقلال ، وهي فترة لابد من التعرف عليها وعلى حقائقها من قبل أجيال الشعب السوري الحالية لأنها تحمل الكثير من فطرة أهل الشام السياسية و الاجتماعية والحضارية. .
كانت الحلقة الأولى من النص ، وقد قرأتها بمتعة، تفتح في أحد مشاهدها (المشهد 12) على
لقطة تعكس معنى الأثر الذي تركته جريمة الاغتيال على الشام :
مشهد/12 / ن/خ دمشق
لقطة عامة لدمشق ..
يطير الحمام مرعوباً ..
صوت طلقة رصاص مضخّماً
وهي حركة ذات معنى في سياق الحدث، وقد استُخدمت مثيلتها بنجاح في أحد حلقات مسلسل
(تاج)، فأدت هذه الحركة في السيناريو غرضاً كبيراً في سياقها، يمكن تلمسه بالعودة إليه، وللأسف لم تجد هذه الحركة طريقها في العرض الذي شاهدناه للمخرج تامر اسحق، أي أنه حذفها، واشتغل على طريقة أخرى هي جميلة أيضا لكنها لا تنسجم مع شخصية نوري و تاريخها إضافة إلى أنها مأخوذة من أفلام المافيا ، و مع ذلك لم يتمها، وهي تلك التي بدأ فيها الحلقة الأولى، وجرى خلالها تقطيع المونتاج بين حركات القاتل، وحركات النوري (الفنان أيمن زيدان)، قبل أن نعرف أي شيء عنه وعن القاتل .
ففي الوقت الذي كان فيه القتلة يتجهون لتنفيذ الجريمة، كان (النوري) قد أعد تفاصيلها، ورسم لنفسه خطة أخرى تتعلق بالرمز الشعبي (أبو عدنان ) التي لعب دوره الفنان سلوم حداد، وهذا ماسنعرفه فيما بعد .
كان هذا يمكن أن يكون مفتاحاً ناجحاً لما سيأتي، رغم غرابة وابتعاد حركات الكاوبوي التي قدمها الإخراج في الإعداد للاغتيال عن البيئة الشامية، لكن الشغل على هذا الإيقاع كان يمكن أن يعطي نتائج أخرى أكثر اشتعالا و أكثر جاذبية لو لم يتلاشى مع انتهاء المشهد الذي نفذ بإيقاع لا ينسجم بحرارته مع الاغتيال. وتتابع الأحداث حيث ركن الإخراج إلى تفاصيل في حركة الكاميرا شتتنا أحيانا، وكأنه لم يفسر الإيقاع المتضمن في بشكل كاف سلاسة النص مما جعله يعود إلى صيغة إخراج أخرى خفضت من حدة التوتر الدرامي في الحلقات الأولى والتي لم تظهر كما ينبغي إلى أن بدأت تفاصيل الصراع تتضح رويداً رويداً للمشاهد .
يحمل مسلسل بيت أهلي عدة رسائل دفعة واحدة، من بينها أنه يريد كشف أهمية المكان التاريخية في ضمير العالم وفي حقيقة نفسه (يوحنا المعمدان مركز الشام وتمسك النبي بالحق هذا شرش من شروش الشام ) إضافة إلى كشف حقيقة البيئة الشامية في جماليتها كمكان حضاري يعيش أحداثا كبرى، فيه مثقفون وأطباء وسياسيون وتجارة وصناعة وكهرباء وماء..
كما يريد تعريفنا في طبيعة (البرجوازية الدمشقية) وما تحمله من وعي سياسي وطني مقاوم للاستعمار، ولذلك قدمت البيوت المختارة للتصوير خدمة كبيرة على هذا الصعيد (عدا ديكور الحارة) ، ونجحت في تقديم صورة البيئة الشامية كما يريدها النص.
أراد المسلسل أيضاً تقديم نفسه من خلال رواية تلفزيونية سلسة في تفاصيلها وأحداثها وقصص الحب والوفاء التي فيها، مستخدما الغموض في بعض المسارات، وهنا حملت القصص جماليات سردية ناجحة متشابكة مع الأحداث، لكن (الغموض في المعطيات) لم يتمكن من سد ثغرة تأخر (الأكشن) الذي اعتاد الجمهور عليه في مسلسلات البيئة السابقة مترافقا مع كل خطوة تتقدم بها الأحداث ، حتى لو كان الأكشن مفتعلاً ..
نتعرف على هوية شخصية أبو عدنان الغائب من أداء أم عدنان في شرودها ونومها وفي صلاتها، واستحضار طيفه، فإذا هي شخصية عملت ضد الاحتلال ويستهدفها الفرنسيون وعملاؤهم بالتشويه وتدمير ثوابتها من الداخل، وهذا يعني أن الشخصية (صياح) بحاجة إلى حضور قوي في (الصراع)، ومع أن هذا الغموض ساهم شيئا فشيئا في كشف شخصية النوري، وبمصير آخر لأبي عدنان، إلا أن المشاهد كان بحاجة إلى وجوده القوي ولو عبر استدعاء الذاكرة التي لم تكن كافية.
هناك قصص حب فرعية، شفافة، سلسة، أداها الممثلون ببراعة، من بينها قصة الحب بين خالد وهدى القادمة من حي القنوات وتلجأ إلى محل الموبيليا الذي يعمل به هربا من الفرنسيين، وبين سلمى وخيرو و يبدو أن هناك الكثير من البتر الإخراجي في هذين الخطين ضيع شحنة الحب الحقيقية فيهما، ناهيك عن بروز نوعين من الحب الأول بين أم عدنان وزوجها (حب الوفاء)، والثاني بين نوري ويسرى (حب المصلحة)، ويتفرع عنه حب وليد بين نوري وابنة أبي عدنان وهناك مسار لحب ينشأ بين الدكتورة سلمى وعرفان..
وأيضا هناك ثنائيات في الصراع الاجتماعي والوطني كالصراع بين شخصيتي صبحي وهناء،
وهو صراع تعرفنا عليه تباعا، ويحمل بعده الدلالي الطبقي والاجتماعي (علاقة الريف بدمشق)، منذ السعي الفرنسي لاستبعاد (ناظم بك) ورسالته الدلالية خطرة أي أن أي زاوج طبقي بين البرجوازية المدنية والريف غير قادر على الاستمرار ولا الإنجاب ..
وأيضا مسار برو ونهلة (كان برو تاجرا أحب نهلة لكن شقيقها أحرق له المستودع والمحلة)هذه التفاصيل الدرامية رافقتها تفاصيل شيقة تتعلق بزواج النوري من ابنة أبي عدنان ،وتتعلق بقصة صطيف السكرجي ..
أما القصة الأهم فقد حملتها شخصية حمدو (الضمير) الذي ظل يقرأ ويكتب الحواشي على كتبه رغم كل ماحصل معه، وظلت تيمته الأساسية حماية الشام ، ويبدو أن الإخراج أستسهل قراءة شخصية حمدو فقدمها لدرويش معاق. رغم أنه أستاذ و محام و كان يجب أن تكون هذه الملامح موجودة في لباسه و تصرفاته بما ينسجم مع حالته. بالرغم من تصور المجتمع من حوله أنه غاب أو جُن أو أنه أصبح مجرد تهويمات على لسان حمدو .
وكما ترى الدكتورة سلوى أنه يمكن أن يعود لدوره (أن يستيقظ) ، لكن هذا يخيف أعداء الشام ، وجاءت المقارنة بينه وبين جورج الذي كان يقاتل خارج بلده (حمدو تعرض للأذى لأنه صاحب قضية أما جورج فكان يقتل ويقاتل في غير بلده ، حمدو منفتح ، وجورج يبحث عن شيء ما أضاعه ) ومحاكاة هذا المحور للواقع السوري في إسقاط رمزي واضح.لكن اختيار سنغالي بديلا عن العسكري الفرنسي ابن الجنرال الكبير و عدم تقديم حالته العصبية كما جاءت بالنص ضيّع المعنى الإنساني لاحتضان الحارة و حمدو له ومساعدته كونه مريضاً..
إن مسلسل (بيت أهلي) كان مشروعاً هاما في الرواية التلفزيونية السورية، قدم هندسة متميزة حديثة في الكتابة الدرامية التلفزيونية رغم الملاحظات التي أوردتها .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة