هالة الوردي: ما نعيشه اليوم امتداد لصراعات الإسلام المبكر
لم يكن اسم هالة الوردي قبل صدور كتابها «أيام محمد الأخيرة» (ألبان ميشال ـ 2016) متداولاً في الشارع الثقافي التونسي. فحضورها كان مقتصراً على الأوساط الأكاديمية، بخاصة بين طلبة وأساتذة الللغة والأدب الفرنسي.
صدور الكتاب الذي يحقّق في وفاة الرسول الغامضة، في باريس وعن واحدة من أعرق دور النشر الفرنسية، لفت الأنظار إلى هذه الباحثة الشابة التي تأتي خلافاً لكل الباحثين التونسيين الذين ارتبطت أسماؤهم بالتراث الإسلامي والدراسات القرآنية، من اختصاص جديد هو الأدب والحضارة الفرنسية. قبل هالة الوردي، كان الباحثون التونسيون من المختصين في التاريخ مثل هشام جعيط، ومحمد الطالبي، ولطيفة الأخضر وحياة قطاط أو اللغة والأدب والحضارة العربية مثل عبد المجيد الشرفي، وآمال قرامي، وزهية جويرو، وألفة يوسف أو الفلسفة مثل يوسف الصديق أو القانون مثل محمد الشرفي وحمادي الرديسي. هالة الوردي هي الأولى والوحيدة حتى الآن التي تقتحم هذا المجال البحثي المحاط بالمخاوف في زمن عربي يصادر التفكير. الباحثة في اختصاص تاريخ الأديان في «المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي»، صوت جديد في المشهد التونسي. اقتحمت مجال بحث لم يسبق لأحد تناوله بهذه الدقة العلمية والتاريخية. لذلك، فإنّ الحديث معها يثير الكثير من الأسئلة، وهو ما يفسر نفاد الطبعة الأولى من الكتاب في وقت قياسي لتعيد الدار أخيراً إصدار طبعة ثانية في انتظار صدور الترجمة العربية في طبعة تونسية. وقد اضطرت الباحثة لتأجيلها بعد تعيينها مديرة عامة للكتاب حتى لا يحدث خلط بين موقعها الإداري وصفتها الأكاديمية والعلمية. وفي هذا الحوار، تتحدث هالة الوردي عن مجموعة من القضايا التي تشغل الشارع العربي في زمنه الحالي، زمن داعش والإسلام السياسي ودعاة التفجير والتكفير.
■ كيف تقبلت ردود الفعل حول كتابك «أيام محمد الأخيرة» (ألبان ميشال)؟ وهل كنت تتوقّعين الأسوأ؟
أنا سعيدة جداً بردود الفعل حول كتابي. تلقّيت العديد من الرسائل من جميع أنحاء العالم كتبها لي القراء الذين أعجبهم كتابي وقالوا لي ما يتمنّى أن يسمعه كل باحث «لقد تعلّمنا الكثير من عملك». أعتقد أن قرائي لمسوا في كتابي حبّ المعرفة الذي كان يشغلني وكان في تناغم مع الأسئلة التي كانت بدورها تشغلهم. كما أنّ الأسلوب السردي الذي اعتمدته وتركيزي على الجانب الإنساني في شخصية الرسول جعل الكتاب قريباً من القارئ. لقد أسعدتني بالخصوص ردود الفعل المتحمّسة من القراء في العالم العربي الإسلامي. وهذا الأمر يبعث الأمل لأنّه يدلّ على وعي كبير تشكّل تدريجاً عبر المحن التي عاشها ولا يزال يعيشها العالم العربي الإسلامي. هذه المحن كوّنت وعياً حقيقياً بأنّ القراءة المتجدّدة لنصوص التّراث الديني هي المخرج من الأزمة التاريخية التي نتخبط فيها. أما عن «الأسوأ»، فأعتقد أنه وارد في كل الحالات. فكل واحد منّا (أكان كاتباً أو فناناً أو مواطناً عادياً) يمكن أن يكون ضحية للتطرف. لذلك تراني أتعامل مع هذا الأمر بحتميّة لأنّ الإرهاب وحش أعمى.
■ العودة إلى الإسلام الأوّل بالنسبة إلى أستاذة مختصة في الحضارة الفرنسية، هل أملاها عليها ما نعيشه اليوم في العالم من مظاهر متشددة للتديّن؟
هذا أمر أكيد، فالواقع الذي نعيشه دفعني إلى البحث والتساؤل. لذلك، حاولت أن أفتك نصوص التراث الديني من قبضة المتطرفين وأن أكتشفها بمفردي من دون وساطة الشيوخ! ظاهرياً، يبدو للملاحظ أنني خرجت من مجال تخصصي. لكنني في واقع الأمر، واصلت العمل النقدي الذي مارسته منذ سنوات على نصوص الأدب والحضارة الفرنسية. ولي في هذا الأمر قناعة شخصية وإن تعددت اللغات، فالنص واحد. الشيء الوحيد الذي يتغير هو الأسئلة التي نطرحها على النصوص القديمة وتغير الأسئلة أمر يمليه علينا تغير الواقع التاريخي. فكل حقبة تاريخية يجب أن تعيد النظر في الموروث لا لتقديسه وتحنيطه، بل لتتعامل معه ككائن حي هو بدوره إفراز لسياق تاريخي معين، وعملية التنسيب هذه تجعلنا نتكلّم مع نصوص الماضي لا نرتّلها.
■ هل تعتقدين أن ثقافة القتل والاغتيال تستمد جذورها من الإسلام الأول؟
اسمح لي أن أعيد صياغة سؤالك: القتل والاغتيال بسبب السلطة لهما جذور في تاريخ البشرية الأول فالأمر ليس حكراً على الإسلام الأول أو المعاصر، وإن كان المفكّر الحرّ عرضة للقتل والعنف فلأنّه يهدد السلطة. فالمفكر أو المبدع الحر يشكل خطراً على من يريد أن يمسك بالحكم بقبضة حديدية وأن يعطي لهيمنته على العقول والقلوب طابعاً مطلقاً ومقدساً. لذلك ترى المفكرين في الصفوف الأولى من الضحايا.
وحتى لا أبتعد كثيراً عن سؤالك بهذا التعميم، فإنّي استنتجت عبر دراستي لـ «أيام محمد الأخيرة» أنّ العنف السياسي في تاريخ الإسلام الأول لم يكن ظاهرة عرضية أو ظرفية، بل كان عنفاً مؤسساً. ما صدمني بكل صراحة هو أنّ الرسول نفسه كان ضحية لهذا العنف. فقد تعرض لمحاولات اغتيال ومنع من كتابة وصيته وسقي دواءً لم يكن يرغب فيه حتى أنه شكّ بأنّه سمّ.
والمفزع في الأمر هو أنّ الذين مارسوا هذا العنف الجسدي والمعنوي، لم يكونوا الأعداء المعلنين للرسول بل أقرب الناس إليه. لذلك ترى الرسول في آخر أيامه شخصية مأساوية. وكتب التراث الإسلامي (السني والشيعي) نقلت أحاديث تعبّر عن حزن الرسول في آخر أيامه. فنراه يقول لجبريل وهو على فراش الموت «يا جِبْرِيل أجدني مهموماً يا جِبْرِيل أجدني مكروباً». كما أنّه تنبأ بالمستقبل القاتم الذي ينتظر المسلمين. مثلاً عند زيارته مقبرة البقيع قبل أيام قليلة من موته، يقول الرسول متحدثاً الى الموتى «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس. لو تعلمون ما نجاكم الله منه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم».
■ في كتابك تشكيك ضمني في عدد من الأحاديث النبوية. هل يمكن الجزم أن بعض الأحاديث فاقدة للصدقية وكانت وراء تبرير القتل؟
أنا لم أشكك في الأحاديث النبوية بل اكتفيت بإبراز تناقضاتها العديدة. كما أن الشكوك التي تحوم حول الكثير من الأحاديث، أمر مطروح في تاريخ الفقه الإسلامي منذ القدم. لذلك نجد علماء الدين يصنفون الأحاديث ويحاولون التمييز مثلاً بين ما هو صحيح وما هو ضعيف. أما عن تبرير القتل وثقافة التكفير (لا أعرف بالضبط ما معنى كلمة «ثقافة» في هذه العبارة)، فمن المؤسف أن نلاحظ أنّ المتطرفين لا يستندون إلى الأحاديث فحسب، بل كذلك إلى النصّ القرآني. ففي اعتقادي، لا يكمن المشكل في الأحاديث فقط، بل كذلك في بعض الآيات القرآنية التي يرفض المسلمون إعادة النّظر فيها. وهنا أرى أنّه من الضروري التمييز في القرآن بين ما يخصّ العقيدة (هذا أمر شخصي لا يناقش) وما هو تاريخي. فإن سلّمنا أنّ القرآن وحي إلهي، فلا يجب أن ننسى أنّ كتابته ونقله عمل بشري مليء بالتأثيرات السياسية الخاصة بالفترة التاريخية التي وقع فيها جمع القرآن.
■ حوكم أكثر من مفكر بتهمة ازدراء الأديان، آخرهم سيد القمني في مصر. هل تعتقدين أن هذه التهمة هي سيف مسلط على رقاب المفكرين الأحرار رغم أن الدساتير تضمن حرية الضمير مثل الدستور التونسي بمعنى أن المشكلة في بنية التفكير لا في الدستور؟
كما سبق وأن قلت المفكر الحر هو دائماً عرضة للاضطهاد لأنه يعيد النظر في المسلّمات ويطرح الأسئلة في حين أن الأفكار المتشددة (سياسية كانت أو دينية) تفرض علينا الإجابات الجاهزة. وحتى أجيب على سؤالك بالتحديد، فأعتقد أنّ الدستور التونسي الذي يكفل حرية الضمير خطوة جبّارة سوف تعطي أكلها في السنوات القادمة وستتمتّع بها أجيال المستقبل. وهنا يجب أن أشير إلى أنّه لا نصّ واحداً في العالم يمكن أن يمنع العنف والتطرّف، فهل منع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الانتهاكات في حق البشرية؟ هل قطع يد السارق قضى على السرقة؟ بالطبع لا! كما تجدر الإشارة إلى أن حريّة الضمير مكفولة في القرآن لا في الدستور التونسي فحسب «لا إكراه في الدين». مع ذلك، فإنّ المسلمين اضطهدوا وقتلوا كثيرين بتهمة الكفر والردة. فلذا أقول لك إنّ المشكلة تكمن في الطبيعة الإنسانية لا في النصوص بشرية كانت أم إلهية.
■ كتابك فيه رسالة ضمنية بأننا لم نقرأ تراثنا. كيف يمكن وبأي آليات يمكن أن نقرأ تراثنا؟
هذا السؤال مهم جداً و«استراتيجي» لأنّه يطرح المسائل المنهجية التي تشغلني كباحثة. بحسب اعتقادي، يجب علينا أن نقطع نهائياً مع الكسل الفكري الذي يجعلنا لا نقرأ النّصوص المؤسسة لتاريخنا والتي تتضمن تفسيراً للوضع الكارثي الذي نعيشه. فكلّ ما نعيشه اليوم ليس إلا امتداداً بل تكراراً للصراعات التي عرفها الإسلام خلال الأيام الأخيرة من حياة الرسول. وإذا أردنا أن نفهم حاضرنا، علينا أولاً أن نفهم ماضينا وأن ندرسه. أما عن آليات هذه القراءة للماضي، فالمنهج الذي اعتمدته شخصياً هو منهج المقارنة، بمعنى أنّي حاولت أن أضع جنباً إلى جنب كلّ الروايات الموجودة في الأحاديث والتفاسير، وكذلك أن أقارن بين روايات السنة وروايات الشيعة. وعلى ضوء هذه المقارنة، حاولت أن أجد نقاط التقاطع، أي تلك المواضع التي يكون فيها الاختلاف ضئيلاً أو منعدماً تماماً. وهنا أودّ أن أشير إلى أنّ دهشتي كانت كبيرة عندما لاحظت أنّ روايات السنة والشيعة في ما يخص ظروف وفاة الرسول متفقة إلى حد بعيد. وعندما يتفق الخصوم على رواية معينة، فهذا يعني أنّها قريبة جداً من الحقيقة التاريخية.
■ أي مستقبل للتيارات الدينية وللإسلام السياسي؟ وهل يمكن أن يعيش العرب والمسلمون الثورة الدينية نفسها التي أسّست لعصر النهضة الأوروبية؟
ما معنى إسلام سياسي؟ متى لم يكن الإسلام سياسياً؟ كما أريد أن أوضح أمراً هاماً: عصر النهضة الأوروبي لم يكن ثورة دينية بتاتاً بل إن الانقسام الديني الذي حصل بين «كاثوليك» و«بروتستانت» في القرن السادس عشر، تسبّب في حروب أهلية في غاية الوحشية، خلّفت آلاف الضحايا. فالشيء الوحيد الذي أسس للنهضة في أوروبا، هو الرجوع إلى النصوص الإغريقية واللاتينية وإعادة قراءتها وترجمتها. كما أنّ اختراع آلة الطباعة في منتصف القرن السٌّادس عشر، ساعد كثيراً في نشر العلم الذي خرج من قبضة رجال الدين. وقد تبدو هذه الإشارة لدور آلة الطباعة المركزي أمراً ثانوياً، لكنّ هذه الآلة حوّلت مجرى التاريخ. ففي حين انتشر الفكر الحر والنقدي وتعمّم بفضل الطباعة في أوروبا، قرٌر فقهاء الإسلام أن هذه الآلة «الشيطانية» محرّمة شرعاً (لم يطبع القرآن مثلاً إلا سنة 1923 في مصر!). وهنا باعتقادي تكمن النقطة الفصل. بفضل آلة الطباعة، تطوّر الفكر الأوروبي وحلّق عالياً. وعندما رفض العالم الإسلامي هذه الآلة، دخل في نفق مظلم لا نزال أسراه.
■ كيف يمكن بناء شخصية إنسان عربي خال من فكر التفجير والتكفير؟
إنسان عربي؟ لا أعرف ما معنى «العروبة». بالنسبة إليّ، لا وجود لشيء اسمه إنسان عربي. هذه خرافة سياسية. هنالك فقط شعوب ناطقة باللغة العربية.