كتب

هل كان رؤوف علوان رمزا لخيانة الصحافة للجماهير؟

هل كان رؤوف علوان بطل ‘اللص والكلاب’ رمزا لخيانة الصحافة للجماهير؟

يمكن فصل صورة الصحفي عن الخطاب الأدبي، وطبيعته التي تبحث عن الجوهر، ولا عن طبيعة المجتمع الذي أنتج هذا الصحفي، ولذا فهذه الدراسة “الصحفي في أدب نجيب محفوظ” للناقد د.محمد حسام الدين اسماعيل أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية بكلية الإعلام جامعة القاهرة تحقق لذة الاكتشاف لجوهر هذه الصورة.

حيث يرى أن النماذج الصحفية في أدب نجيب محفوظ لا تخبرنا فقط عن خواص زمنية بالمهنة وقت كتابة الرواية أو القصة بل تتجاوز ذلك إلى الثابت عبر الزمن، ألا وهي الثقافة، وهو ما جعل نقاد وباحثي أدب نجيب محفوظ يرون مثلا أن بعض نماذج رواية المرايا – التي نشرت عام 1971 لتعبر عن شخصيات شغلت حيزا كبيرا من القرن العشرين – تعيش بيننا حتى الآن رغم رحيل من كتب عنهم الروائي، ثم رحيله هو، ومرور نصف قرن على كتابة الرواية، لأن هذه هي العناصر الثقافية شبه الثابتة التي رصدها نجيب محفوظ بعبقريته وموهبته، وهذه هي خصوصية الخطاب الأدبي الراقي.

فمثلا سوف يتكرر في حياة مصر الاجتماعية صنف من الصحفيين مثله مثل المجرمين الذين يفلتون بجرائمهم، كشخصية الصحفي رؤوف علوان في الرواية الرائعة “اللص والكلاب”.

تأتي دراسة إسماعيل في أربعة فصول يتناول فيها شخصية الصحفي في المراحل المختلفة لروايات نجيب محفوظ ففي روايات المرحلة الواقعية يدرس روايات “القاهرة الجديدة”، “خان الخليلي”، الثلاثية “بين القصرين، السكرية، قصر الشوق”، ومن روايات المرحلة الفلسفية “اللص والكلاب”، “السمان والخريف”، “الشحاذ”، “ثرثرة فوق النيل”، “ميرامار”، أما في المرحلة متعددة التجارب وهي مرحلة الاعلام وسطوة التليفزيون فيدرس”المرايا”، “الحب تحت المطر”، “الباقي من الزمن ساعة”، “أمام العرش”، ويخصص الفصل الأخير لصورة الصحفي في القصص القصيرة وصفات وأدوار الصحفيين في “أحلام” نجيب محفوظ.

يتوقف إسماعيل مع ثلاث شخصيات كانت لها علاقة بالصحافة في (القاهرة الجديدة)، الأولى: أحمد بدير الصحفي الوفدي الذي بدأ العمل بالصحافة منذ أن كان طالبا بكلية الآداب قسم الفلسفة ثم أكمل العمل في الصحافة بعد التخرج.والشخصية الثانية: محجوب عبدالدايم الذي عمل بالصحافة مضطرا كمترجم أو مصحح، بعد أن مرض والده وهو في السنة النهائية من دراسته بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد (القاهرة)، عمل لفترة بسيطة قبل أن يتحول مقدما تنازله الأخلاقي المشين ليكون سكرتيرا في الوزارة التي يعمل بها سالم الإخشيدي بلدياته من القناطر مقابل زواجه من عشيقة البك وكيل الوزارة.

والشخصية الثالثة: التي عرفنا أنها بصدد إصدار مجلة أسبوعية اسمها (النور الجديد) ممثلة في الاشتراكي الملتزم بقضايا مجتمعه (علي طه) الذي ترك وظيفته في مكتبة الجامعة ليصدر هذه المجلة، فعندما ذهب محجوب عبدالدايم كي يزور (علي طه) في عمله الجديد بالمكتبة صرح له الأخير: “هذه فترة انتظار وتفكير ريثما أجد سبيلا بالاشتغال بالحياة العامة، وربما اخترت الصحافة في الوقت المناسب”.

ويقول “من خلال تفاعل الزملاء الثلاثة مع بقية الشخصيات يقدم لنا نجيب محفوظ رؤيته للعمل الصحفي عامة وللصحفي الوفدي ثم الاشتراكي خاصة، وكذا الصحفي الانتهازي إذا أراد أن يتجرد من مبادئه ولديه استعداد لذلك في شخصية محجوب عبد الدايم. على سبيل المثال، عندما دعا (علي طه) الصحفي الوفدي أحمد بدير إلى الاشتراكية رد معتذرا: “إني صحافي وفدي والوفد حزب رأسمالي”.

ويضيف إسماعيل “يعود أحمد بدير ليظهر في الحفل الخيري لـ (جمعية الضريرات) التي ترأسها سيدة المجتمع إكرام نيروز، وخلال الحوار بينه وبين محجوب عبدالدايم يتكشف لنا الكثير عن العمل الصحفي لا سيما الفارق بين الواقع وما يكتب، وكذلك الفارق بين ظاهر العمل الخيري وباطنه، بل ويتكشف زيف هذا المجتمع الراقي.

وفي الرواية يذهب محجوب عبدالدايم إلى سالم الإخشيدي ابن بلدته القناطر في مكتبه بالوزارة، دون أن يسميها محفوظ أيضا، كي يقترض منه مبلغا بسيطا يعينه على العيش وعلى شراء مذكرة لمادة علم النفس فلم يقرضه، لأنه تعود ألا يعطي أبدا ولا عهد له بفن الإحسان، ولكنه عرفه على صاحب مجلة (النجمة) لكي يترجم محجوب بعض الموضوعات الصحفية لقاء بعض المال وسأل محجوب: أيدر هذا العمل ربحا معقولا؟ فرد سالم الإخشيدي: “لعلك سمعت عن ثراء الصحفيين!”، ولا شك أن علامة التعجب في النص تشي بأن العبارة قيلت على سبيل السخرية، وإن كان هناك بالفعل بعض الصحفيين الأثرياء ولكن مؤكد ليس من بين هؤلاء من يعمل بالترجمة بالقطعة.

لكن أهم مشهد في الرواية عن الصحافة كان الحفل الخيري وحوار محجوب عبدالدايم وأحمد بدير، ثم الخطة التي وضعها الأول لكتابة الموضوع الصحفي كرجل علاقات عامة وليس كصحفي ينقل الحقيقة حتى يسعد السيدة إكرام نيروز.

ويتابع “في هذا الحفل الخيري نرى نماذج فاسدة في المجتمع المصري في هذه الفترة تعكس فضائح في الأغلب جنسية لها علاقة بالصعود الاجتماعي لبعض الفئات: منها صاحبة الجمعية التي لا تجيد العربية المحبة للشبان الصغار إلماحا لخيانتها لزوجها، البك الذي يغض الطرف عن علاقة زوجته بباشا عجوز طمعا في رتبة البشوية، الشاب الجميل حديث التخرج من خريج الحقوق ذو المرتب الكبير الذي يعمل ببنك مصر ومؤهلاته هي جماله إلماحا لاحتمال الشذوذ الجنسي، الموظف المحترم الذي استقال لأسباب خلقية واشتغل بالأعمال الحرة في شقته الأنيقة التي بها مائدة للقمار والحسان الكواعب الحور، وعرفه أناس من ذوي النفوذ فأعادوه إلى الخدمة، لجنة تحكيم مسابقة الجمال التي تلقت رشاوى جنسية لإعطاء التاج لفتاة بعينها. نعرف كل ذلك عن طريق الصحفي الوفدي، ولكن ليس كل ما يعرف يقال أو ينشر عنه، وهي أمور في عرف الصديقين لا تستحق الدهشة إذ إن “اختيار الموظفين تزييف، رسو العطاءات تزييف، الانتخابات نفسها تزييف، فلماذا لا يكون انتخاب ملكة الجمال تزييفا؟!”.

ثم تأتي الخطة التي وضعها محجوب لكتابة مقاله الخطير وهي أن يقسم ورقة نصفين، ويجعل لكل شطر عنوانًا. ولكن محجوب لم يذهب في هذا الطريق الصحفي الطويل رغم خسته وعدم مثاليته، بل فضل عليه طريقا مختصرا إلى الأمان والصعود الاقتصادي والاجتماعي، وهو أن يبيع شرفه مقابل وظيفة الدرجة السادسة ـ سكرتير الوزير ـ عندما يتزوج من عشيقة مرؤوسه.

ويلفت إسماعيل أن مهنة الصحافة في رواية (القاهرة الجديدة) يعمل بها الأبطال والأوغاد: الانتهازي العبثي الذي لا خلاق له صاحب الولاء لذاته، الذي على استعداد تام لفبركة الموضوعات الصحفية وقلب الحقائق، وكثير من هذه النماذج تثرى من الصحافة، ويعمل فيها الوفدي الذي يخاف أن يعبر عن رأيه، ويلتزم بالخط الحزبي، يعلم فضائح المجتمع ولكن لا سبيل لنشرها بالكامل نتيجة القيود القانونية والسلطوية، وكذا يعمل فيها الاشتراكي صاحب القضية فيطلب من والده الثري أن يساعده في تأسيس مجلة تدافع عن الفقراء، تلك المجلة التي يظن الوالد أنها ربما تكون مشروعا تجاريا ناجحا.

وكلما كانت معاناة الشخص الاقتصادية والاجتماعية شديدة كلما مال أن يكون انتهازيا أفاقا والعكس بالعكس، فشخصية محجوب عبدالدايم جاءت من أسرة فقيرة مرض عائلها تعيش في قرية هي القناطر، بينما شخصية (علي طه) جاءت من أسرة أكثر يسارا وغنى، فوالده مترجم بالإسكندرية ذو مرتب ضخم.

ويوضح أن محفوظ في رواية (اللص والكلاب) “استوحى قصته من حادث سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان، الذي شغل الأذهان يوما وأقام الدنيا وأقعدها قبيل نشر الرواية خريف 1960، وجعلت منه تهويلات الصحافة بطلا وصورته عموما في صورة الإنسان الخارق القادر على كل شيء، ثم كانت نهايته بواسطة الكلاب البوليسية التي اقتفت أثره حينما فر إلى كهف في الجبل كما تفر الضواري، فبين اللصين ملامح كثيرة ولكنها لا تتعدى السطح إلى أعماق الشخصية ودوافع السلوك”.

ويعنينا أيضا أن تغطية الصحافة المثيرة لحادثة السفاح كانت هي الدافع لدى الكاتب أن يوظف هذه التغطية في رواية تعتبر من عيون الأدب العربي الحديث، بما يعني أن الصحافة كانت مصدر إلهام للروائي الكبير، ولكن الأهم أن الشخصية المحورية في الرواية وهو سعيد مهران وجد في شخصية صحفية وهو رؤوف علوان المعلم والأستاذ والسند، ثم انقلب الأخير على أفكاره السابقة بعد أن صنعت من سعيد مهران لصا، ورؤوف هنا رمز للخيانة، ولكن في دراستي هذه رمز لخيانة الصحافة للجماهير، فهل حقا هذه المهنة خائنة؟!، ومن الذي يخون فيها؟ وماذا وراء خيانة الصحفي رؤوف علوان مما جرى السكوت عنه في (اللص والكلاب)؟!.

ورغم أن محفوظ صرح في مذكراته بأنه “في الرواية كان هناك نقد لثلاث قضايا: الأولى هي خيانة المبدأ، وثانية مبدأ الاغتيال نفسه، والثالثة الحلول الغيبية”، فإني أعتقد أن أبرز القضايا كانت القضية الأولى: الخيانة التي لوثت الصحافة والسلطة.

ويشير إسماعيل أن النظام السياسي لثورة يوليو 1952 أفرز شكلا للعلاقة بين الصحافة والسلطة حتى قبل صدور قانون تنظيم الصحافة عام 1960، فقد انعكس تفضيل أهل الثقة من جانب السلطة سلبيا على مجمل أداء الصحافة المصرية، وقد برز ذلك واضحا في صحف الثورة التي أنشاها وأدارها وسيطر على تحريرها العسكريون، وحتى هؤلاء العسكريون ارتهن تعيينهم واستمرارهم أو عزلهم من وظائفهم الصحفية بمدى التزامهم بالتوجهات العامة للقيادة الناصرية، ولم تتعد سيطرة حكومات الثورة على الصحف التي تصدرها بل تعدتها للصحف المملوكة لأفراد ـ خاصة بعد مارس 1954 ـ فأضحى حق الوجود على الساحة سواء بالنسبة للصحيفة أو الصحفي رهنا برضاء السلطة عن هذا الوجود، كما باتت السلطة المصدر الوحيد للأخبار، ومن ثم فإن عدم اكتساب ثقتها يعني فقدان قدرة الصحفي على الحصول على الأخبار، وبالتالي فقدان قدرته على أداء وظائفه الصحفية.

إن نجيب محفوظ في (اللص والكلاب) يعري ويفضح الطبقة الانتهازية المتسلقة التي غيرت جلدها وانضمت إلى الطبقة الراقية عن طريق الانقلاب على المبادئ الاشتراكية، فاستأثرت بمصالح وامتيازات متعددة بحكم احتلالها لمناصب مهمة في أجهزة الدولة.

وكان رؤوف علوان يرمز إلى هذه الطبقة المتسلقة التي حصلت على الكسب المادي السريع والمكانة المرموقة دون جهد أو تعب، وإنما حصلت على ذلك كونها بوقا للسلطة، وكانت تسعى سعيًا حثيثًا للحصول على الكثير من المكاسب التيتدر عليها ثروة كبيرة لمصلحتها الخاصة دون الاهتمام بمصالح الآخرين لا سيما الفقراء.

ويرى أن رؤوف علوان هو رمز لفئة المثقفين الانتهازيين الذين صعدوا مع ثورة 23 يوليو 1952 التي أعلنت أنها جاءت لخدمة الشعب بأكمله وبشّرت بعديد من المبادئ الاشتراكية ولكنها قضت على طبقة الارستقراطية والبرجوازية الكبيرة، وأقرت مكانهما طبقة بيروقراطية انتهازية يمثلها رؤوف أحسن تمثيل، وهذا هو البعد السياسي للقضية.

فصراع سعيد مهران السياسي هو صراع ضد السلطة التي أقرتها ثورة 1952، لأنه رأى فيها تنكرًا وخيانةً لمبادئها الأولى وإجحافًا بحقوق الملايين من الناس الذين يمثلهم، بل إن السلطة لا تقف إلاّ بجانب الكلاب أمثال عليش ونبوية ورؤوف علوان وتحمي اللصوص الحقيقيين فهي حكومة تتحيّز لبعض اللصوص دون البعض”. أن رؤوف علوان في (اللص والكلاب) صحفي خائن تحميه السلطة، هو القافز من السفينة قبل أن تغرق، المتخلي عن المثالية، وسيغدو التخلي عن المثالية صفة حاضرة في الروايات التي تصور الصحفيين في مصر في أدب نجيب محفوظ. ألم نخبر صحفيين كبار ينطبق عليهم هذا الوصف وأعادوا سيرة رؤوف علوان في مراحل متتابعة من عمر الصحافة المصرية؟!.

وفي تحليله لرواية “الشحاذ” يلفت إسماعيل إلى أنه في الرواية يلعب الدور الصحفي أو الإعلامي البارز مصطفى المنياوي أو الأصلع الصغير على وزن الأخطل الصغير، صديق بطل الرواية (عمر الحمزاوي) المحامي المرموق الذي فترت حماسته للحياة. يبيع مصطفى اللب والفشار لوسائل الإعلام، أي المواد الخفيفة المسلية كالمسلسلات الكوميدية، ويعمل رئيسا للقسم الفني في إحدى المجلات بعد أن اعتزل الأدب والكتابة المسرحية الجادة سعيا وراء النجاح المادي، موقنا بأن دور الأدب انتهى في مقابل دور العلم. في سياق زيارة عمر الحمزاوي لعيادة الطبيب الذي كان زميله في المدرسة الثانوية يذكر الطبيب من أصدقائهم القدامى مصطفى المنياوي ويدعو عمر ليذكره بلقبه فيقول له “الأصلع الصغير، ما زلنا أصدقاء لا نكاد نفترق، وهو اليوم صحفي نابه ومؤلف إذاعي تليفزيوني” فيرد الطبيب بأن زوجته مغرمة به، وعندما يخبره عمر بذلك يعلق مصطفى ضاحكا: “أصبحت بفضل الإذاعة والتليفزيون كالوباء ولا بد أن أصيب ضعيفي المناعة… إذن فهي مغرمة باللب والفشار”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى