أردوغان و”تركيا الجديدة” وسياسات الهوية

مصطفى اللباد- يتصدر رجب طيب أردوغان المشهد السياسي التركي ويطغى عليه بسمته وشخصيته وشعاراته المحافظة ذات المحتوى الطائفي الصارخ، وبمضامين تعود إلى ما قبل مرحلة تأسيس الجمهورية التركية. تطالعك صور الإعلانات الضخمة التي تغطي مباني العاصمة التركية أنقره على طول الطريق من المطار وحتى الفندق، دون أن تظهر لك صورة واحدة لأي من المرشحين الآخرين في السباق الرئاسي: أكمل الدين إحسان أوغلو أو صلاح الدين دميرطاش.

تسأل سائق التاكسي عن السبب وراء اختفاء صور المرشحين، فيبادرك بسؤال عن بلدك، وعندما تجيبه من مصر تتسع ابتسامته ويجيبك. يقول لك إن أردوغان زعيم وأن إحسان أوغلو خصم اردوغان في الانتخابات هو مرشح حزب الشعب الجمهوري، والأخير يقوده علوي. كما ان المرشح دميرطاش كردي، في حين أن أردوغان تركي وسني وقائد للأمة!

ربما تكون بداية الرحلة لمتابعة الانتخابات الرئاسية التركية معبرة تماماً عن الأجواء، والواقع التركي المعاش، الذي جعل الانقسامات التركية عرقيا وطائفيا وأيديولوجيا في أوج تألقها. هكذا تنتقل “تركيا الجديدة” من حالة الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار الذي ميز الشارع التركي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، إلى حالة الاستقطاب العرقي والطائفي في أوضح صورها. السني في مواجهة العلوي، والتركي في مواجهة الكردي والمسلم في مواجهة الأرميني واليوناني، والمتدين في مواجهة العلماني. ويزيد من حدة الاستقطاب توافر وسائل الإعلام لدى كل الأفراد، ووسائل التخاطب الجماهيري والسياسي لدى كل الأفرقاء، ما يزيد الاستقطاب كميا ونوعيا.

أردوغان السلطان العثماني

يفضل بعض أنصار أردوغان إطلاق وصف السلطان العثماني عليه، وهو السياسي التركي الأكثر طموحا في تاريخ الجمهورية التركية، منذ وفاة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. طبع أردوغان الحياة السياسية بطابعه منذ فوز حزبه بالانتخابات البرلمانية لفترتين كاملتين، فتنقل الشاب الطموح من محافظ اسطنبول إلى الزنزانة ومنها إلى مقعد رئيس الوزراء. ومن هناك يروم أردوغان الطموح، الانتقال إلى رئاسة الجمهورية. ولما كانت الصلاحيات المخولة لرئيس الجمهورية في الجمهورية التركية البرلمانية أقل من الطموح الأردوغاني، فقد أعلن الأخير عن نيته في تحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية.
كانت الخطوة الأولى هي انتخاب الرئيس بالاقتراع المباشر من الشعب وليس البرلمان كما كان الحال سابقا، ومن ثم تعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس. لكن الانتخابات الرئاسية الراهنة تجري على منصب غير محدد الصلاحية، في دليل إضافي على الشخصنة المميزة للنظام السياسي التركي في ظل الطموح العارم لأردوغان.

“تركيا الجديدة”

يقف النظام السياسي التركي على أعتاب مرحلة نوعية جديدة، إذ تشكل الانتخابات الرئاسية الحالية نقطة الانطلاق للتغيير. وإذ يكثر أردوغان من الحديث عن “تركيا الجديدة” يتخطى الأمر مجرد إدلاء الأتراك بأصواتهم في صناديق الاقتراع، ليتجاوز النظام السياسي مطاولا الأسس التي ارتكز عليها المجتمع التركي في العقود السابقة.

يخرج الناظر إلى قاطرة التغيير الأردوغانية ووتيرتها بانطباعات عديدة أولها أن الجمهورية الكمالية بالشكل الذي كانت عليه قبل عقدين فقط من الزمان لم تعد موجودة إلا في المتاحف وتماثيل أتاتورك وصوره في المؤسسات الحكومية. ثانيها والمترتب على أولها أن النخب السياسية والاقتصادية والاعلامية في تركيا تغيرت، بحيث صارت نخب الأناضول المهمشة في قلب السلطة التركية، وهو انجاز اردوغاني خلال السنوات العشر الماضية. وثالثها المترتب على ثانيها أنه بالرغم من طموحات أردوغان وشخصنته للسياسة، إلا أن تحالفه مع النخب التركية الجديدة يجعل مشروعه الشخصي متسربلا بدعم قوي من النخب الاقتصادية الجديدة في تركيا. رابع الانطباعات أن انتصارات أردوغان الانتخابية المتتالية في البرلمان والبلدية كرست تاريخيا هزيمة منكرة لليمين التركي التقليدي، قبل أن تكون هزيمة للعلمانية واليسار على ما يقول مؤيدو أردوغان. والدليل على ذلك استمرار مؤيدي العلمانية واليسار في البرلمان التركي عبر «حزب الشعب الجمهوري»، مقابل اختفاء أحزاب اليمين التقليدي مثل “الطريق المستقيم” و”الوطن الأم”. يتمثل خامس الانطباعات في أن قاطرة التغيير الأردوغانية تستند إلى نجاحات اقتصادية غير منكورة استفادت من أسواق الدول المجاورة، ومن الموقع المتاح غربيا لتركيا في النظام العالمي الجديد، لتحسين وضعية الاقتصاد التركي، برغم المثالب التي تعددها المعارضة التركية.

باختصار “تركيا الجديدة” هي مصطلح براق قيد التعريف، وفقا لرغبات السلطان العثماني والنخب التركية المتحالفة معه، وليست مشروعا محدد الملامح. على كل الأحوال تبدو المسألة عميقة إلى درجة هز مسلمات تركية، وإعادة تشكيل المجتمع التركي وليس النظام السياسي فقط على قياس أردوغان والنخب المتحالفة معه.

سياسات الهوية

اقتربت تركيا في عصر أردوغان كثيراً من معايير المشرق العربي وتعبيراته، ولم يعد الهم تصدير صورة “النموذج” أو النجاحات الاقتصادية في نوافذ العرض السياسية التركية قائما بعد كساد بضاعة “الربيع العربي”، حيث دشنت حملة أردوغان الانتخابية تبنيه الكامل لسياسات الهوية، تلك التي تفرغ السياسة من مضامينها الاجتماعية وتجعلها في يد أفكار سرمدية عن الطوائف والأديان والأعراق العابرة للتاريخ، بعد أن تفتح الأبواب لقصص تاريخي مغلق وأحادي يتنزل على المتلقين من أعلى.

صحيح أن حزب «العدالة والتنمية» الذي يقوده أردوغان يمثل قوة تغيير في المجتمع التركي، ولكنه تغيير يستند إلى الغالبيات الرقمية والعددية وليس بالضرورة إلى الأسس الديموقراطية التعددية في مجتمع متنوع الأعراق والطوائف. هنا يتضح أن سياسات “الإخوان المسلمين” كانت الطبعة الأكثر رداءة من الأصل الأردوغاني نفسه. بمعنى أن العمليات الانتخابية تسير على قاعدة الحشد والتجييش الهوياتي (نحن في مقابل الآخرين) من دون أن تعني الـ”نحن” شيئا محددا ومتفقا عليه بالمعنى السياسي، في حين أن “الآخرين” هم الخصوم والأغيار والمخالفون. في هذه الحالة تكفي نسبة خمسين بالمئة أو ما فوقها بقليل لإعلان الانتصار على “الآخر” ونزع حقوق المواطنية عنه في الحياة السياسية، والحصول على تفويض بتعديل التوازنات المجتمعية من طرف واحد تحت شعار “إرادة الصندوق” في الحالة الإخوانية، و”إرادة الأمة” في الحالة الأردوغانية. ولما كانت “الأمة” في تركيا حالة وجدانية قبل أن تكون حالة سياسية – اجتماعية، ينفتح الباب أمام مخاوف واسعة لدى أتراك كثر، من مستقبل بلادهم في حال فوز أردوغان برئاسة الجمهورية، مع غياب التوازنات المؤسسية أو ما يطلق عليه checks and balances باللغة الإنكليزية.

دشن أتاتورك تركيا على أنقاض ما تبقى من السلطنة العثمانية على الجغرافيا متعددة الأعراق والطوائف، فجعل الدستور التركي كل المسلمين المقيمين على هذه الأراضي أغلبية (السنة والعلويون والأكراد والعرب والشركس واللاز والأرناؤوط وغيرهم)، وعين الأقلية وفقا للدين بحيث يعتبر الأرمن واليونانيون أقلية. وإذ تعرف الأقلية في العلوم السياسية بأنها تلك المجموعة السكانية التي تملك خصائص مختلفة عن تلك المجموعة ذات العدد الأكبر سكانيا والمالكة للسلطة الاجتماعية، بحيث تحدد المجموعة المهيمنة الخصائص التي لا تتقاسمها مع الأقلية.

وفي تطبيق عملي للاستقطاب: الأغلبية مقابل الأقلية وتحت شعار المصارحة الانتخابية قال أردوغان: “أنا سني وكليجيدار أوغلو (زعيم حزب الشعب الجمهوري علوي.. فلنتحدث عن ذلك صراحة”. وفي حديث تليفزيوني قبل أيام يقول: “خصومي يتهمونني أنني من جورجيا، بل أفظع من ذلك هم يقولون إن أصولي أرمينية”، فيقول أردوغان بذلك أنه أمر فظيع أن تكون أرمنيا في “تركيا الجديدة” التي ننشدها.

الخلاصة

سيفوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية، سواء من الجولة الأولى أو عبر جولة ثانية لا يمكن استبعادها كليا من قائمة الاحتمالات، رغم أرقام مراكز استطلاعات الرأي التركية غير المحايدة، وستدخل تركيا مرحلة جديدة في تاريخها. وتعني “الصندوقراطية” الصارخة التي يتبناها أردوغان (الحصول على نصف الأصوات بحشد جماهيري على خلفيات صراع الهوية)، واعتبار ذلك تفويضا لتقويض التوازنات القائمة وإلغاء نصف المجتمع الآخر سياسيا، ان تصبح الشمولية عنوانا للنظام السياسي في تركيا. ومع موت الصراع الطبيعي بين اليمين واليسار بسبب موت اليمين التقليدي وضعف اليسار في تركيا، ستفتح النوافذ التركية على صراعات الهويات والطوائف والأعراق فتنحدر العملية السياسية التركية يدا بيد مع “الانتصار” المتوقع لأردوغان. انتهى زمن التمدد الإقليمي لتركيا في دول الجوار وبدأ زمن أزمات الهوية داخل تركيا، تلك التي يطلقها أردوغان من قمقمها الآن!.

ستدخل تركيا مرحلة جديدة في تاريخها بعد فوز أردوغان بالرئاسة… ستصبح الشمولية عنواناً للنظام السياسي في تركيا. ومع موت الصراع الطبيعي بين اليمين واليسار، ستفتح النوافذ التركية على صراعات الهويات والطوائف والأعراق… انتهى زمن التمدد الاقليمي لتركيا في دول الجوار وبدأ زمن أزمات الهوية داخل تركيا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى