إدارة «النصر» بعد حلب

مؤخّراً، استطاع الجيش السّوريّ أن يستعيد معظم الجغرافيا الّتي كان قد فقدها، تدريجياً، منذ بدء معركة حلب في أيلول 2012. وسائل إعلام الأرض، جميعها، مشغولةً برصد التطوّرات العسكرية في عاصمة الشمال. كلّ تقدمٍ في الميدان يُساوي إصابةً سياسيّة، وكلّ تراجعٍ لمُسلّحي المعارضة يعطي دمشق وحلفاءها ثقلاً مضافاً في صراع المحاور.
الحربُ السّوريّة أثبتت، على الدّوام، أنّ الدّراية السّياسية والإدراك العسكريّ ليسا كافيين لتخمين ما هو آتٍ. الاستنادُ إلى الخلاصات الّتي أرستها حروبٌ سابقة، لم يُنتج استشرافاتٍ دقيقة، فمسارُ المعارك في سوريا تبدّل، مراراً، بفعل «التدخلات الخارجية غير المتوقعة»: من مشاركة «حزب الله» ميدانياً، إلى جانب الجيش السوريّ، والّتي ظهر أول مفاعيلها في معركة القصير في نيسان 2013، إلى «مشروع الضربة الأميركية لسوريا»، الّذي جرى الحديث عنه في آب 2013 قبلَ أن يُطوى بموجبِ اتّفاقٍ أدّى إلى نزعِ سلاحِ دمشق الكيماوي، إلى «عاصفة السوخوي» في أيلول 2015، ثم اغتيال سمير القنطار بصاروخٍ استهدفَ مقرّه في مدينة جرمانا في كانون الأوّل 2015، ومحاولة الانقلاب على نظام الحكم في تركيّا في تموز 2016. هذه كلّها أمثلةٌ على أحداثٍ وقعت بصورةٍ، يُمكن أن نَصفها، مجازاً، بالـ «مفاجئة»، والخارجة عن نطاق التوقعات.
غير أن الأمر بدا مُختلفاً مؤخراً في ما يخص استعادة كامل حلب. فقد نضجت الظروف مع انطلاق المعركة إلى حدّ لم يعد ممكناً معه حصول «انعطافة غير محسوبةٍ» في مجريات المعارك الدائرة هناك. وهو ما يضع الجيش السوريّ وحلفاءه على مشارف نصرٍ عسكريّ يفضي، نظرياً، إلى إعادة بسط سيطرة الدولة على جزءٍ واسعٍ من البلاد بصورةٍ تُمكّنها من الإعداد، كما يجب، لمعارك الرقّة وإدلب ومحافظات الجزيرة.
قد يُذكّرنا المشهد، في واحدٍ من جزئيّاته، بواقع البلاد خلال أشهر الحراك الأولى، يومَ لم يكن للسلاح دورٌ ويومَ كان الحديثُ، كلُّ الحديث، يدورُ حولَ مستقبلٍ سياسيّ يطوي صفحة شمولية «النظام» إلى الأبد.
في السّياسة، كرّرت الدولة السورية، عبر مسؤولين كثر، سؤالاً فيه من الاستخفاف ما فيه من القيمة «مَن نفاوض؟». منطق القيادة السياسية في دمشق يقول: «نحن فريقٌ سياسيّ نحرّك جيشاً وازناً قاتل وضحّى سنوات عدّة، وقدّم شهداء وجرحى، وحقّق، بدعمٍ من حلفاءَ إقليميين ودوليين، انتصارات على مسلّحين، معظمهم إسلاميّون. لماذا يجب علينا أن نحاور معارضةً «لا تمون» على بندقية واحدة؟».
نظرياً، ومن حيث التوصيف، فإنّ الكلام أعلاه فيه وجه صواب، فالواقع السّوريّ استقرّ، منذ عسكرة الحراك، على معادلةِ «وزنك في السّياسة يُحدّده وزنك في الميدان». ومن منطق «المُنتصِر»، قد ترفضُ الدولة السورية التفاوضَ مع كلّ مَن لن تكونَ له مساهمةٌ عسكرية في الوصول إلى موضع «اللا عسكرة».
لطالما حمّلت المعارضات السورية الدولةَ مسؤولية «التّأخر» في الانفتاح على مكوّناتٍ سياسية أخرى، وكلّ «إصلاح» كانت تقدّمه الحكومة، كان يُجابه بحجّتين اثنتين «الإصلاح نظريّ، وجاء متأخّراً عن مطالب الشارع». في هذا الكلام أيضاً وجه حقّ، فالضغوط الخارجية والمتغيّرات الإقليمية لا يُمكن لها أن تُشكّل ذريعةً تُبرّر للنظام تأخره عقداً كاملاً في نقلِ البلاد نحو تعدّدية فعليةٍ تنتج رقابة وقضاءً يصحّحان عمل المؤسّسات المُكبّلة بالبيروقراطية والفساد والتبعيّة لحيتانِ المال وصقورِ الدوائر الأمنية. هذا على فرضِ أنّ النيّة لاتخاذ قراراتٍ من هذا الطّراز كانت موجودةً أصلاً.
ماذا بعد سكوت البنادق؟
«المعارضات المحتضَنة خليجياً»، بما يشمله هذا التعبير من مكوّنات سياسية وفصائل مسلّحة، يكرّر أفرادها اليوم خطاباً يتحدّث عن «خذلان المجتمع الدوليّ لهم وتخلّيه عنهم». هذا الخذلان يساوي، ميدانياً، أنّ الدولة السورية تسترجع حلب دونَ أن يقوم الخصوم، الدوليّون، بردّ فعلٍ يؤدّي لاستعادة التوازنِ العسكريّ الضائع. شعور هؤلاء بفقدِ الوزن، الّذي يفترض أن يسمح لهم بالمشاركة في صناعة مستقبل البلاد، يتجلّى في ظهوراتهم الإعلاميّة كلّها. يتذكّر أغلبهم يومَ كان الحلّ السياسيّ متاحاً وأداروا ظهورهم له طمعاً في «إسقاط النظام» الّذي تماسك وصمد وبدأ يدير المعركة وفق شروطه.
«معارضة القاهرة»، ما زالت تقول كلاماً وسطيّا يحظى على ما يبدو بقبولٍ لدى شريحةٍ لا بأس بها من الشعب السوريّ، وفي المقابل لن تخرج «قوّات سوريا الديموقراطية» من الاستحقاق بخفّي حنين.
مرّةً أخرى، ووفق منطق المُنتصِر (افتراضياً)، ستكون الدولة السورية صاحبة اليد الطولى في وضع شروط التفاوض والحوار. هذا على المستوى السياسيّ. أمّا وطنيّاً، فيتوجّب على الدولة أن تنظر إلى التغيير على أنّه ضرورةٌ لترميم البيت الداخليّ، فالعودة إلى ما قبل آذار 2011 باتت مستحيلة. الشعب الّذي تفتّح سياسياً وإعلامياً وصار له منابره الخاصّة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ لن يقبلَ بدولةٍ تحكمه بثنائيّة «الشعار أو القصاص». التيّارات السياسية «الوطنيّة» الخارجة عن سرب «البعث»، والّتي اعتقل بعض أفرادها أو جرى نفيهم، أو تغييبهم في أحسن الأحوال، لن ترتضيَ مزيداً من الشموليّة وأحاديّة العمل السياسيّ. والأهم من هذا وذاك، أنّ مفهومَ «الدولة الوطنيّة» يستوجب من الحاكمين الالتفات إلى «الكوارث» السابقة على المستويات كلّها، ويستوجب، أيضاً، التوقّف عن تعليقِ الفاجعة الّتي نعيشها اليوم على شمّاعة المؤامرة، فالظهر لا يُمتطى ما لم يكن محنيّاً.
الدولة مطالبةٌ بالتعامل، عملياً وليس شعاراتياً وخطابياً، مع فعل المعارضة على أنّه ضرورةٌ وطنيّة تقي البلادَ شرّ الخطايا والآثام الّتي ارتكبت على امتداد عقودٍ خلت ومهّدت، داخلياً، لاندلاع الاحتجاجات الّتي جرى توظيفها، لاحقاً، لاستهداف الكيان السوريّ.
الدولة مطالبة بالتعامل مع فعل المعارضة على أنّه ضرورة وطنيّة تقي البلاد شرّ الخطايا الّتي مهّدت لاندلاع الاحتجاجات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى