الإعلام الطائفي وتدمير ما تبقى (خالد الحروب)

 

خالد الحروب

 
ابتداء، لا يمكن القول إن كل الإعلام الديني يندرج تحت وصف الإعلام الطائفي أو المتطرف، ومن غير الموضوعية إطلاق أي وصف عام وتعميمي إزاء هذا الإعلام. لذا وجب ترسيم هذا المدخل الأساسي قبل مقاربة أي نقاش حول الموضوع، فالتركيز في الأسطر التالية يختص بالجانب المتطرف والطائفي من ذلك الإعلام تحديداً. الإعلام الديني المتطرف، والمتلفز منه على وجه الخصوص، هو ظاهرة عالمية ينظر إليها في سياق عولمة الاتصالات في العقود الأخيرة. أما العواقب الناجمة عن هذا الإعلام، فهي متنوعة وتعتمد على السياق السياسي والاجتماعي الخاص والأجندة التحريرية لكل حالة إعلامية وعلى منسوب التوتر لدى اللاعبين الرئيسيين في السياق المعني. وعملياً كان الإعلام الديني في الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية هو أول من ابتدع استخدام شاشات التلفزة لنشر الدعوات الدينية على مستوى جماهيري. وبينما تتشارك وسائل الإعلام الدينية بعض الملامح والصفات المشتركة بصرف النظر عن موقعها الجغرافي أو ما تروج له من دين، فإن بعضها يشكل حالات خاصة منفردة. سنركز هنا على الإعلام الديني في الشرق الأوسط وخصوصاً السنّي والشيعي منه.
الملمح المشترك لوسائل الإعلام الدينية، وخاصة المتشددة منها، يتمثل في إحياء المعارك العقدية الدينية النائمة وبثها في الوجدان الشعبي، ففي الشرق الأوسط وفي سياق التنافس الإقليمي الجاري والذي يأخذ أبعاداً طائفية، تقوم وسائل الإعلام في المعسكرين على بث وترويج مساجلات إزاء نزاعات وخلافات دينية عقدية كانت تتسم على الدوام بالنخبوية وبكونها محصورة في فئة رجال الدين والمتكلمين، وهي معارك كانت بعيدة من اهتمام الناس العاديين، وانقضت وعف عليها الزمن. وكما هو شأن هذه الأمور في كل الأديان بلا استثناء، ثمة اختلافات عميقة بين المدارس العقدية والمذاهب المختلفة في الإسلام ولكنها ظلت مقصورة على الدوائر المتخصصة من فقهاء وعلماء بالدين. وعلى ذات المنوال، تعود الخلافات بين الشيعة والسنّة إلى القرن الأول الهجري، لكن بمرور الزمن تشابكت خيوط الاختلاف في تأويل النص المقدس مع خيوط الصراع السياسي لتتحول المواقف السياسية المتعارضة على مر القرون إلى أرثوذكسيات دينية ومعتقدات متشددة. وعبر التاريخ الإسلامي، كان التحول الجماعي إلى المذهب الشيعي أو السنّي غالباً ما يجري قسراً أو قريباً من القسر على يد الملوك والحكام بعد تبني السلطة مذهباً معيناً وليس لقناعة المتحولين إلى هذا المذهب أو ذاك. وإذ لم يكن للمحكومين من حيلة سوى الانصياع للسلطة، فقد كانوا غالباً ما يتبعون حكامهم المنتصرين من دون شعور بتبكيت الضمير. أما أمر الاشتغال بالاختلافات والتبريرات الدينية الجوهرية، والتسويغ الديني لما هو جوهرياً سياسي، فقد ظل ظل عملاً مقصوراً في الغالب على العلماء والفقهاء، خاصة من تحالف منهم مع الحكام. في المقابل، وعلى مستوى الناس العاديين حيث توجد جماعات مختلطة من السنة والشيعة، سادت درجات مختلفة من التعايش وتجلت عبر التعايش الاجتماعي المكثف في كل المجالات، وعلى رأسها الزيجات المختلطة. وظل هذا الأمر سارياً ليصبح شكلاً عاماً للعلاقات الاجتماعية داخل الجماعات المختلطة (في العراق، وبلدان الخليج، ولبنان) وإلى عقود قريبة، وتحديداً حتى سبعينات القرن الماضي.
لكن تحولاً مفاجئاً حصل في الوقت الراهن بظهور الإعلام العابر للحدود واستخدامه سلاحاً في ساحة الخصومات الإقليمية، ابتدأ بالحركية الإسلاموية الشيعية وتبعته الحركية الإسلاموية السنية (السلفية تحديداً). فمع بروز وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، لم يتردد آية الله الخميني في تبني سياستين أخافتا دول الجوار العربي، وخاصة الخليجية إلى درجة كبيرة: الأولى هي إعلانه بأنه يتحدث باسم كل المسلمين (شيعتهم وسنّتهم)، والثانية إعلانه سياسة تصدير الثورة الإسلامية، وضمنا إلى دول الجوار كمرحلة أولى. تمثلت ردة الفعل الخليجية في السعي الفوري إلى إحباط هذا الزعم باستثارة خطاب ديني سنّي مناهض للأيديولوجيا الشيعية التي كان لها وهج ثوري جذاب حتى في أوساط المجتمعات السنّية المحبطة، والتي كانت تتوق إلى أي طرف يقف في وجه إسرائيل (كما فعلت إيران الخمينية بإغلاق السفارة الإسرائيلية، ثم تبني خطاب معاد لإسرائيل).
وهكذا صار الناس يكتشفون وعبر القنوات الدينية التي تضخ مواد ضحلة وتحريضية ضد الشيعة أو السنة، وفق اتجاه القناة، بأن كثيراً من جيرانهم هم في الواقع من «الطائفة الأخرى» التي يُشك في إسلامها، فالشيعة في نظر صناع الخطاب السلفي المتعصب إسلامهم غير مكتمل، والسنّة في نظر صناع الخطاب الشيعي المتعصب إسلامهم غير مكتمل أيضاً. وفي ضوء حروب إعلامية وخطابية طاحنة تعلي من شأن الذات الجمعية من ناحية وتعتبرها صاحبة «الحق» المطلق، وتدعو إلى استئصال الطرف الآخر باعتباره (أي الطائفة كلها) ضالاً ومُضِلاًّ، أعيد إنتاج الصراعات السياسية الراهنة من مناظير طائفية تاريخية. وانتعشت المظلوميات التاريخية والادعاءات التي لا يمكن إثباتها على شاشات التلفزة وفي الخطاب السياسي، وتحول الجهد إلى كيفية ربط ما يحدث يومياً بالسرديات التاريخية الكبرى، بحثاً عن تسويغ الفعل السياسي وعن الشعبية والشعبوية. ولعل من الأمثلة الصارخة الحديثة على التصريحات السياسية ذات الصبغة الطائفية الواضحة، ذاك الذي صدر مؤخرا عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، في معرض ربطه «معركته» بالتاريخ الشيعي والكربلائي، فقد وصف المالكي خلال زيارته مدينة كربلاء في ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٣، القتال الجاري بين الجيش العراقي والمجموعات السنية المسلحة على أنه استمرار للمواجهة القديمة في القرن السابع الميلادي بين الحسين ويزيد، كما وصف كربلاء بكونها «قبلة» كل المسلمين، على ما في هذا التعبير من استفزاز شديد لكل السنّة الذين يرون أن مكة وحدها هي قبلة المسلمين، وأن مناكفة ومزاحمة المالكي باستخدام ذلك الوصف بكبرياء لا يُؤكد سوى رغبة إيران في أن تصبح زعيمة العالم الإسلامي برمته.
ساهم الإعلام الديني، ولا يزال، في تآكل الأرضية الاجتماعية المشتركة وفي إضعاف فكرة المواطَنة وهي فكرة هشة أصلاً ولم تمتلك فرصة كافية أبداً لتضرب بجذورها عميقاً في أي من دول المنطقة بعد انتهاء الحقبة الكولونيالية. وحلت الولاءات الدينية والطائفية محل الانتماءات الوطنية وفكرة المواطَنة، في ظل ضعف الدولة أو قمعها وعدم شعور الأفراد بالانتماء لها، بل ساد الإحساس بالخوف والرعب منها، وبذلك انتعشت تلك الولاءات وصارت تبحث عن مرجعيات وسلطات خارج نطاق أوطانها. ووفر الإعلام العابر للحدود، وبخاصة الديني منه، منابر وقنوات للتواصل مع تلك المرجعيات خارج الحدود الوطنية، ولهذا فإن الشرائح الانتخابية الشيعية أو السنية في أي بلد قد تشعر بارتباط أوثق مع الشرائح المشابهة لها خارج أوطانها، فمنذ حرب عام ٢٠٠٣ في العراق وما تمخض عنها من هيمنة شيعية على السلطة هناك، ربما تشعر شرائح سنية عريضة من العراقيين بتهميش الدولة لهم، وربما من الأغلبية الشيعية العراقية كذلك. وفي هذا السياق، فإن التغطية الإعلامية لمظالم السنّة ومظاهر تهميشهم في العراق تخلق لديهم روابط وتوقعات عابرة للحدود وتدفعهم للتطلع نحو مساعدة وتأييد «الأشقاء السنة» في البلدان الأخرى.
إن اتساع نطاق التغطية والتأثير للإعلام العابر للحدود يلعب دوراً سلبياً في تفكيك الفضاء الوطني واستبداله بفضاء ديني رمادي واهٍ عابر للحدود الوطنية ويجمع بين الجماعات التي تنتمي إلى الطائفة ذاتها ولكنها تستقر في بلدان مختلفة داخل المنطقة، وهذا يعمق من التجزئة ويعقد من تداخل الولاءات الدينية والسياسية عبر الحدود، ويوفر أرضية خصبة لانفجارات مستقبلية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى