اللّوبي اليهودي في الانتخابات الأميركيّة

“هل تعلم سبب شهرة القضيّة الفلسطينيّة؟ لأنّكم أنتم أعداؤنا. يعود أصل الاهتمام بالفلسطينيّين إلى الاهتمام بالمسألة اليهوديّة. الاهتمام كلّه لكُم أنتم، وليس لي أنا. مصيبتنا هي أنّ عدوّنا هو إسرائيل التي تستفيد من دعمٍ لا حدود له، من ناحية، ومن حظّنا أن تكون إسرائيل عدوّنا، لأنّ اليهود بؤرة الاهتمام، من ناحية أخرى. أنتم تَسبَّبتم لنا بالهزيمة والشهرة معاً”. هكذا خاطب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش المخرج الفرنسي اليهودي جان لوك غودار خلال لقاء مصوّر معه عام 2004.

يقودنا كلام محمود درويش إلى انتخابات الرئاسة الأميركيّة التي ستجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، حيث يتسابق المرشّحون الجمهوريّون والديموقراطيّون على خطب ودّ إسرائيل لكسب أصوات اليهود الأميركيّين الذين يصل عددهم إلى نحو 6.5 ملايين يهودي، كي نقيّم دور اللوبي اليهودي في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

كيف نفسّر نفوذ اللوبي اليهودي في دوائر القرار الأساسية الأميركية وتأثيره في السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط بينما لا يتجاوز عدد اليهود الأميركيّين الاثنين في المائة من مجموع الشعب الأميركي (6.5 مليون نسمة)؟

تعود قوّة “اللّوبي اليهودي” إلى ثلاثة عوامل أساسية هي: الصوت اليهودي، والتمويل اليهودي للحملات الانتخابية، والتنظيم الفاعل للّوبي.

1 – الصوت اليهودي: تكمن فاعلية الصوت اليهودي في كون السكّان اليهود الأميركيّين غير موزّعين بالتساوي بين الولايات؛ ففي نيويورك وكاليفورنيا ونيوجرسي – على سبيل المثال – تزيد نسبتهم على النسبة الوسطية (3 في المائة)، حيث يتكثّف وجودهم في المراكز المدنية من الولايات، هذه المراكز التي تُعتبَر أكثر المناطق أهمّية من الناحية السياسية. فعلى سبيل المثال: مدينة نيويورك هي موطن أكثر من (90 في المائة) من سكّان الولاية اليهود. لذلك نجد أنّ (12 في المائة) من السكّان المؤهّلين للاقتراع في نيويورك هُم من اليهود. كما أنّ نسبة الناخبين اليهود في كاليفورنيا تبلغ (3 في المائة)، وترتفع إلى (6 في المائة) في نيوجرسي.

وهذه الولايات تتميّز بوزنٍ انتخابي يفوق الوزن الذي يتميّز به الكثير من الولايات الأخرى، نظراً لضخامة عدد ممثّليها الذين يشاركون في الانتخابات الرئاسية. ويتميّز اليهود الأميركيّون في كون (90 في المائة) منهم يدلون بأصواتهم في الانتخابات، في حين أنّ نحو (50 في المائة) من الناخبين الأميركيّين لا يكلّفون أنفسهم عناء الاقتراع، الأمر الذي يرفع نسبة أصوات اليهود بمعدّل (واحد في المائة) على الأقلّ، علماً بأنّ هكذا زيادة ترتفع نسبتها أكثر من الولايات التي تشهد وجوداً يهودياً أكثر كثافة حيث تبلغ بين 2 و6 في المائة في نيويورك.

لكن أهمّية الصوت اليهودي تزداد في مرحلة الانتخابات الأوّلية، فنجد أنّ الناخبين اليهود يُشكّلون ربع الناخبين المشاركين في الانتخابات الأوّلية للحزب الديموقراطي في ولاية نيويورك، ونصف أولئك المشاركين في الانتخابات الأوّلية لهذا الحزب في مدينة نيويورك، مركز هذه الولاية. وبالتالي، فإنّ خيارات الناخبين اليهود في الانتخابات الرئاسية الأوّلية غالباً ما تُحدِّد اسم المرشَّح الديموقراطي الذي سيدخل المنافسة ضدّ المرشّح الجمهوري في الانتخابات النهائية.

يكتسب الصوت اليهودي قوّة إضافية لكون اليهود الأميركيّين يتّخذون مركز الوسط في بعض المنافسات ما يجعلهم يشكّلون “نسبة أصوات مُرجِّحة” لهذا المرشّح أو ذاك.

2 – تمويل الحملات الانتخابية: تقوم منظّمة إيباك، وهي اللجنة الأميركية – الإسرائيلية للشؤون العامّة(AIPAC) التي لا يحقّ لها قانونياً جمع التبرّعات من أجل تمويل الحملات الانتخابية، بتمويل الحملات الانتخابية عبر ” لجان العمل السياسي” (PACS). ويُظهِر اليهود الأميركيّون كرماً مثاليّاً في تمويل الحملات الانتخابية لمرشّحيهم المفضَّلين. ويمكن القول إنّ “لجان العمل السياسي” هي أفضل أدوات الضغط والنفوذ للمجتمع اليهودي الأميركي.

وتصل قيمة مساهمات هذه اللجان في تمويل الحملات الانتخابية إلى عشرات ملايين الدولارات. كما يجري تخصيص بعض الأموال لمقاطعات تكاد تنعدم فيها أصوات الناخبين اليهود، وذلك بهدف إظهار أنّ تدخّل اللوبي اليهودي عبر استخدام الأموال يمكن أن يحلّ محلّ تدخّله عبر استخدام الأصوات، سواء لدعم مرشَّح أم لمعاقبة مرشَّح آخر.

3 – طريقة عمل اللوبي: أمّا كيف نفسّر تأثير اللوبي في رسم السياسة الخارجية الأميركية حيال منطقة الشرق الأوسط وإسرائيل؟ فالمُلاحَظ أنّ اللّوبي يمارس نفوذه وتأثيره في رسم السياسة الخارجية عن طريق الكونغرس المخوّل التصديق على المعاهدات ومبيعات الأسلحة والحروب، والإشراف على العمليات السرّية، وإقرار الموازنات (وبخاصة موازنتَيْ الدفاع والمساعدات الخارجية). كما بإمكان الكونغرس التأثير في عمل السلطة التنفيذية عبر عقْد جلسات الاستماع المتعلّقة بقضايا السياسة الخارجية، ومطالبته السلطة التنفيذية بتقديم تقارير حول هذه الموضوعات. ويوافق الكونغرس دائماً – بأغلبيّة ساحقة – على أيّ اقتراح يتضمّن إرسال المساعدات إلى إسرائيل.

ويعتمد الكونغرس أسلوب ابتزاز الإدارة الأميركية في حال رفضت الموافقة على اقتراحاته المؤيّدة لإسرائيل بحيث يقوم بالتهديد بوضع القيود على بعض الموازنات أو معارضة بعض الصفقات التي يمكن أن تشلّ عمل الإدارة الأميركية.

تقييم قوّة “اللّوبي الإسرائيلي”

لا يجب أن نعتقد أن نفوذ اللّوبي اليهودي يمكنه أن يشلّ الإدارة الأميركية في كلّ الظروف، فإذا أراد البيت الأبيض أن يتحدّى الكونغرس، فإنّ الضغط المباشر الذي يستطيع الأوّل أن يمارسه على العديد من أعضاء الكونغرس يجعل منه (أي البيت الأبيض) اللّوبي الأقوى، كما أظهرت المعركة التي دارت حول صفقة بيع طائرات الأواكس إلى السعودية. إذ عندما ترى الإدارة الأميركية أنّ المصالح الأميركية في خطر، فبإمكانها أن تتنكّر لأولويّات اللّوبي ورغباته بجهدٍ يسيرٍ نسبياً.

أما إذا كان حجم الضرر الذي قد يلحقه نفوذ اللّوبي بالمصالح الأميركية غير واضح، فما من شيء يستطيع ترغيب صانعي القرار الأميركي بتحمّل التبعات الداخلية المترتّبة عن الضغط على إسرائيل.

لكن هل يمكن أن نعتبر نفوذ “اللوبي” التفسير المناسب والصحيح للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية وأن ننسب إليه مجمل السياسة الأميركية المتعلّقة بإسرائيل؟

على الرغم من أنّ نفوذ اللّوبي يُسهِم إلى حدٍّ بعيد في تفسير هذه العلاقة، إلّا أنّ قوّة نفوذ اللّوبي لا يمكن تفسيرها بالقوّة المالية اليهودية والصوت اليهودي والتنظيم المُحكَم للّوبي فقط، لأنّ هذه العوامل الثلاثة – في رأي البعض – لا تمثّل بحدّ ذاتها الأساس الكافي لبناء هذه القوّة المُعتبَرة وتكوينها. ويرى بعض الباحثين أن التفسير الذي يُعطي دوراً جوهرياً للّوبي يمكّن القادة الأميركيّين من الإيحاء للعرب بأنّهم في حلّ من السلوك الموالي لإسرائيل الذي تنتهجه إدارتهم، ويتيح لهم مطالبة القادة العرب بتقديم التنازلات التي تساعدهم في نضالهم ضدّ اللوبي الإسرائيلي.

أمّا بالنسبة إلى القادة الإسرائيليّين، فإنّ إيمانهم بقدرة اللّوبي على فعل كلّ شيء يجعلهم يعتقدون أنّهم مهما فعلوا سيجدون، في واشنطن، دائماً أنصاراً ومدافعين قادرين على إبطال المحاولات التي تبذلها الإدارة الأميركية من أجل ممارسة الضغوط عليهم.

ويذهب بعض الباحثين إلى أنّ التفسير القائم على أساس قوّة اللوبي يفتقر إلى الصلاحية العلمية لأنّ البراهين التي يستند إليها عاجزة عن تفسير التنافس فوق العادي بين السيناتورات (أو النوّاب) بهدف إظهار ودّهم لإسرائيل، أو تفسير المزايدة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري عبر البرنامج الانتخابي الموالي لإسرائيل. لذلك، تحتاج قوّة اللّوبي نفسها إلى التفسير. ولا يمكن تفسير هذه القوّة إلا بواسطة عوامل ثلاثة تسهم بدورها في تفسير العلاقة المميّزة بين إسرائيل والولايات المتّحدة. وهذه العوامل هي أولاً: المنزلة الرفيعة لدولة إسرائيل، حيث يستمد اللّوبي جزءاً من قوّته من المكانة المرموقة التي تتمتّع بها إسرائيل؛ ثانياً: دور القوّة العظمى الذي تلعبه الولايات المتّحدة، بحيث إنّ أيّ انتصار يحرزه اللّوبي في المعارك الداخلية الأميركية يُضاعَف مرّات عديدة عندما يُترجَم إلى السياسة الخارجية؛ ثالثاً: البُعد الإيديولوجي والثقافي للمجتمع الأميركي. إذ يعود نجاح اللوبي إلى كونه يلعب دور المناصر لإسرائيل والمدافع عنها باسم الانتماء الأميركي – الإسرائيلي المشترك. فنحو ثلاثة أرباع الأميركيّين يشعرون بالتزامٍ أخلاقيّ حيال مسألة “منع زوال الدولة اليهودية”.

ويحدّد الباحث الأميركي ميتشيل بارد الاعتبارات التي تجعل الولايات المتّحدة تشعر بالتزام أخلاقي تجاه إسرائيل على الشكل التالي: “عطفها على الشعب اليهودي لما عاناه في المحرقة النازية (الهولوكست) ؛ الإرث الثقافي اليهودي – المسيحي المشترك؛ تشابه النظامَين الأميركي والإسرائيلي من حيث إنّ إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في منطقة تعجّ بالأنظمة الاستبدادية؛ عزلة إسرائيل (ذات المساحة الصغيرة والستّة ملايين نسمة) بين 350 مليون عربي يفضّلون استئصالها من العالم الإسلامي؛ إيمان الأميركيّين بوجوب دعم حقّ الشعب اليهودي في العيش على أرضه التاريخية”.

وقد لعبت “الصهيونيّة المسيحيّة” في الولايات المتّحدة دوراً كبيراً في تكريس “دعم إسرائيل” كأحد ثوابت القِيم الأخلاقية في المجتمع والثقافة الأميركيّتَيْن، وتعزّز نفوذها هذه بعدما استطاعت اختراق “اليمين المسيحي” في الولايات المتّحدة وهو الذي يشكّل الطرف الأقوى داخل الحزب الجمهوري.

وتعود بدايات التحالف الصهيوني – الإنجيلي إلى أواخر السبعينيّات عندما وضع حزب اللّيكود خطّة عام 1978 لتشجيع الكنائس الأصولية المسيحية على تأييد إسرائيل. والمعروف تاريخياً أن معظم اليهود الأميركيين يصوّتون لمصلحة الحزب الديموقراطي ومرشّحه للرئاسة ومرشّحيه للكونغرس، لكن في بداية القرن الحادي والعشرين، بدأت أصواتٌ في اللوبي اليهودي تدعو اليهود الأميركيّين إلى التحوّل من دعم الديموقراطيّين إلى دعم الجمهوريّين في الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة.

* مدير مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى