’’المديونيّة الأميركيّة‘‘ تُهدِّد بأزمة عالميّة

يرث الرئيس دونالد ترامب أعباءً اقتصاديّة وماليّة ثقيلة تتجلّى بعجزٍ كبير في موازنة الدَّولة ومديونيّة تتجاوز العشرين تريليون دولار، وركود اقتصاديّ وارتفاع في معدّل البطالة، وتهديد بفقدان الأميركيّين نحو 3,5 مليون وظيفة، الأمر الذي يُعرقل إمكانية تحقيق أهدافه في استعادة النموّ الاقتصادي الذي سبق أن بلغ 3,5 في المئة سنويّاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، قبل أن يتراجع الى نحو 2 في المئة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.

لا شكّ في أنّ استمرار قوّة الدولار كعملة احتياط في العالَم، ومصير أذون الخزانة الأميركية، التي تُعَدّ حتّى وقت قريب الملاذ الآمن للاستثمار الأكثر أماناً في العالَم، مرهون بقدرة الولايات المتّحدة على حلّ مشكلة الدَّين الحكومي بشكل جذريّ، وليس بتأجيلها لفترة قصيرة من الزمن، لتعود مجدّداً، وبشكلٍ كارثيّ، لتُهدِّد الاقتصاد الأميركي، ولتَشمل بتداعياتها السلبيّة الاقتصاد العالَمي.

ولعلّ من أهمّ أسباب تفاقُم مشكلة الدَّين الأميركي ثلاثة:

طبيعة النّظام المالي والاقتصادي في الولايات المتّحدة.

النفقات الكبيرة على الدفاع والقوّات المسلّحة المُنتشرة في أصقاع العالَم، فضلاً عن افتعال حروب عدّة في مناطق مختلفة، مثل الحرب على أفغانستان، واحتلال العراق، والمبالغة في دعوى الحرب على الإرهاب.
ضخّ مليارات الدولارات في بعض المؤسّسات المالية الأميركية لإنقاذها من الإفلاس بعد أزمة الرهن العقاري عام 2008 وتداعياتها على الاقتصاد العالَمي.
لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الدَّين الأميركي ارتفع بشكلٍ مُتسارِع حتّى قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ ففي ولاية الرئيس جورج بوش الابن، زاد حجم الدَّين من 6 تريليون دولار عام 2000 الى 9 تريليون عام 2007، وفي عهد باراك أوباما بين عامَي 2008 و2016، قفز إلى أكثر من 20 تريليون دولار.
وتُعَدّ الولايات المتّحدة (كدولة واحدة) الأكثر مديونيّة في العالَم، ويُعادِل حجم دينها إلى الناتج المحلّي الإجمالي نسبة 114 في المئة، وهي نسبة مرتفعة، وتحمل سلبيات متعدّدة ومتنوّعة، كونها بعيدة عن نسبة “القاعدة الذهبيّة” لمعايير الأخطار الدوليّة وفق “ميثاق ماستريخت”، والمحدَّدة بمعدّل 60 في المئة فقط للدَّين المقبول نسبةً إلى الناتج المحلّي الإجمالي.

تحدّيات اقتصاديّة

وَعد دونالد ترامب الأميركيّين أنّ بإمكانه تسديد الدَّين العامّ بسهولة خلال ثمانية أعوام، وهذا يعني تعديلاً في موازنة الدَّولة لإنفاق نحو 4 تريليون دولار سنوياً، ويزعم ترامب أنّ بإمكانه تحقيق هدفه عن طريق التفاوض حول الصفقات التجارية، وهو أمر يقول خبراء الاقتصاد إنّه قد يُحدِث نتائج كارثيّة في حال حصول حروب تجاريّة مع الصين والمكسيك، وبما يؤدّي إلى ركودٍ اقتصاديّ وخسائر في الوظائف، وعجز كبير في الموازنة نتيجة انهيار عائدات الضرائب، وخصوصاً أنّه يريد خفض معدّلاتها للجميع، بما يشير إلى أنّ خطّة ترامب ستزيد أرقام الدَّين العامّ، إذا نفَّذ تعهّده بخفْض هذه الضرائب بمقدار 6,2 تريليون دولار على مدى 10 سنوات مُقبلة.
وتوقَّعت تحليلات صادرة عن “مؤسّسة الضرائب” أن تُقلِّل الخطّة من الإيرادات الفيدراليّة بواقع 2,6 إلى 3,9 تريليون دولار على مدى السنوات العشر المُقبلة، ومن شأن تخفيضات الإنفاق الغائبة أن تزيد من عجز الموازنة بمقدار الثلث أعلى من المستويات التي توقّعها مكتب الميزانيّة في الكونغرس الأميركي.
وكالة “موديز” الدوليّة للتصنيف الائتماني، وصفت إصلاحات دونالد ترامب الاقتصاديّة بأنّها ستؤدّي إلى ركودٍ طويل الأمد، وضياع ملايين فرص العمل، وأشار محلِّلو “موديز” إلى أنّه إذا نفَّذ ترامب مقترحاته خلال سنوات حكمه الأربع المقبلة، فإنّ 3,4 ملايين أميركي سيخسرون وظائفهم، وسترتفع نسبة البطالة من 5 في المئة حالياً إلى 7 في المئة.

الديون والدائنون

ينقسم الدَّين العامّ الأميركي الى فئتَيْن: الدَّين الحكومي، ويبلغ نحو 5,5 تريليون دولار، والدَّين المملوك من العامّة ويبلغ نحو 14,5 تريليون دولار.
وتدين الحكومة الأموال لـ “نفسها” كنوع من الاستثمار، على غرار أموال صندوق الضمان الاجتماعي الذي يَستثمر في سندات الخزانة الأميركيّة. أمّا حكومات الدُّول الأجنبيّة، فهي تمتلك نحو نصف الديون المملوكة من العامّة، وبالتحديد 6,17 تريليون دولار. ووفق أحدث إحصاءات لوزارة الخزانة في واشنطن بنهاية حزيران (يونيو) الماضي، تُعَدّ الصّين أكبر حائز أجنبي للمديونيّة الأميركيّة بنحو1,241 تريليون دولار، تليها اليابان بنحو 1,148 تريليون دولار، ثمّ تأتي دُول دائِنة للولايات المتّحدة بمبالغ ضئيلة، مثل سويسرا، المملكة المتّحدة، هونغ كونغ، روسيا، تايوان، الهند، بلجيكا، ودُول الخليج العربيّة.
وتُشير أرقام وزارة الخزانة الأميركيّة بنهاية آذار (مارس) 2016، إلى أنّ قيمة اكتتاب دُول مجلس التّعاون الخليجي في سنداتها بلغت 231,3 مليار دولار موزَّعة على الشكل التالي: السعودية 116,8 مليار دولار، الإمارات العربيّة المتّحدة 62,5 مليار دولار، الكويت 31,2 مليار دولار، عُمان 15,9 مليار دولار، قطر 3,7 مليار دولار، البحرين 1,2 مليار دولار.
ولوحظ أنّ المملكة العربيّة السعوديّة التي تحتلّ المرتبة 15 على لائحة كبار حاملي تلك السندات، قد تراجعت حصّتها على مراحل، وبدفعات متتالية، حتّى وصلت إلى 96,5 مليار دولار في تمّوز (يوليو) 2016، أي أنّها انخفضت بنحو 20 مليار دولار خلال مدّة أربعة أشهر. واستمرّ تراجعها إلى 89,7 مليار دولار في أيلول (سبتمبر) الماضي، لكنّها تحسَّنت قليلاً في تشرين الأوّل (أكتوبر) إلى 96,7 مليار دولار.
أمّا الصّين التي تحتلّ المرتبة الأولى وتمتلك نحو 20 في المئة من مجموع الديون الخارجية للولايات المتّحدة، فتقوم بين وقتٍ وآخر بعرض سندات الخزانة الأميركية للبيع في إطار المُنافسة القائمة بين البلدَين على قيادة الاقتصاد العالَمي، ويتمّ ذلك من خلال مصارف خاصّة أو عن طريق مديري الاستثمار في لندن، وخصوصاً من أجل دعم احتياطات البنك المركزي الصّيني وحماية اليوان، وقد تراجعت حصّتها إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من ست سنوات. وبحسب التقرير الشهري لوزارة الخزانة الأميركيّة، تمتلك الصّين سندات بقيمة 1,12 تريليون دولار حتّى نهاية تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وعلى الرّغم من تراجع استثمارات اليابان في السندات بمقدار 4,5 مليار دولار إلى 1,13 مليار دولار، فقد تفوَّقت على الصين بمقدارٍ ضئيل جدّاً، وتمتلك الصّين واليابان معاً حوالي37 في المئة من إجمالي سندات الخزينة الأميركية.
وكذلك روسيا التي تحتلّ المرتبة 16 عالميّاً، فإنّ حصّتها في السندات الأميركية لا تخضع وفق حاجتها لدعم احتياطاتها النقدية فقط، بل لِتُطوِّر علاقاتها مع الولايات المتّحدة والتي تتراوح، بحسب الظروف، بين الإيجابية والسلبية. ففي عام 2008 رفعت روسيا حيازتها للسندات الأميركية من 32,6 مليار دولار إلى 116,4 مليار دولار، وبنهاية العام 2013 ارتفعت إلى 138،6 مليار دولار، ولكنّها تراجعت في العام 2014 إلى نحو 52,6 مليار دولار، واستمرّت بالتراجع في العام 2015.

أزمة عالميّة

أجمعت تقارير عدّة على تحذير دُول العالَم من أزمة مالية نتيجة تفاقم حجم المديونية العالمية الذي تجاوز 152 تريليون دولار في نهاية العام 2015، ويُتوقَّع أن يصل إلى 170 تريليون دولار في نهاية العام 2016.
ولمعرفة مدى خطورة أزمة المديونية العالمية، يُمكن الإشارة إلى أنّ نسبتها من الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي بلغت 225 في المئة في نهاية العام 2015 وفق تقرير صندوق النّقد الدّولي، وهي نسبة كبيرة جدّاً وتقترب بما يساوي نحو أربعة أضعاف نسبة “القاعدة الذهبية” لمعايير الأخطار الدولية وفق “ميثاق ماستريخت”.
وعلى الرّغم من التحذير المتشدّد لصندوق النّقد الدّولي من حدوث أزمة مالية بسبب تفاقم حجم المديونية العالمية، فإنّ مديرة الصندوق كريستين لاغارد تحثّ حكومات الدُّول القادرة على الاقتراض وإنفاق المزيد، على أن تفعل ذلك لتعزيز النموّ الذي يعاني من ضعف مستمرّ. أمّا وكالة الطّاقة الدولية، فترى أنّ تحقيق النموّ الاقتصادي العالمي المتوقَّع في التقديرات الأساسية لصندوق النَّقد الدّولي والبالغ 3.4 في المئة لعام 2017، والذي يعزِّز توقّعات الطلب، سيواجِه صعوبات كبيرة؛ علماً أنّ مستويات الدَّين المُفرطة يمكن أن تؤدّي إلى فرض عبء على نموّ الاقتصاد حتّى في غياب الأزمات المالية، حيث ينتهي الأمر بالمُقترضين المُثقلين بالديون إلى خفض الاستثمار والاستهلاك.
خلَّفت الأزمة المالية العالمية في العام 2008، تحدّيات كبيرة ومؤلمة لاقتصادات الدُّول المتقدّمة، ورافقها انخفاض في أسعار الفائدة المصرفيّه لـ “صفر”، حتّى أنّها وصلت بالسالب في دُول أخرى، ولجأت معظم حكومات الدُّول إلى برامج التيسير الكمّي (شراء الأصول) كإجراء سهل لضخّ سيولة جديدة في الأسواق، كذلك ارتفعت الديون السيادية نتيجة ارتفاع العائد على السندات وأذون الخزانة، فضلاً عن القروض التي توسَّعت فيها معظم الدُّول لجذب سيولة جديدة.
هذه الإغراءات فتحت “شهيّة” مؤسّسات القطاع الخاصّ على الاقتراض، حتّى بلغت حصّتها نحو 70 في المئة من حجم الدَّين العامّ، أي ما يُعادِل أكثر من مئة تريليون دولار، وفق تقرير صندوق النّقد الدّولي. ولكنّ الأرقام تختلف عنها في تقريرٍ لمعهد التمويل الدّولي الذي أشار إلى أنّ الديون العالمية، سواء الاستهلاكية أم الحكومية أم ديون الشركات المالية وغير المالية، زادت أكثر من عشرة تريليونات دولار في النصف الأوّل من العام الحالي لتتجاوز 216 تريليون دولار، بما يعادل 327 في المئة من الناتج الاقتصادي العالَمي، أي خمسة أضعاف نسبة “القاعدة الذهبية” لميثاق ماستريخت. ولوحظ أنّ ديون أسواق الدّول المتقدّمة تقترب سريعاً من نسبة 400 في المئة من الناتج الإجمالي، حيث زاد حجم إصدارات الديون في قطاعات تلك الأسواق كافّة في النصف الأوّل من العام الحالي 8 تريليونات دولار إلى اكثر من 163 تريليون دولار مع نهاية حزيران (يونيو) 2016.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى