سوريا ومتاهة المستقبل (د. رياض نعسان آغا)

د. رياض نعسان آغا

مفجع أن يفقد الخبر المأسوي السوري أهميته، وأن يصير عادياً مهما تصاعد عدد الضحايا كل يوم ، فبعد شهور من بدء النزيف، وتحوله إلى شلال دم ، لم يعد كثير من العرب والمسلمين والإنسانيين يهتم لصور الأشلاء الممزقة والأجساد المرمية في الشوارع والأزقة، والرؤوس المقطعة والمذبوحة بالسكاكين، فضلاً عن الذين يدفنون تحت الأنقاض، وربما دفن كثير منهم أحياء، والمفجع أن أكثر الضحايا هم من الناس البسطاء الذين وجدوا أنفسهم فجأة في ساحة حرب، ومن يتأمل صور الضحايا والتعليقات التي ينشرها الناشطون على صفحات الإنترنت يعجب كيف تفجرت سوريا بمشاعر الحقد والكراهية، وكيف تنمو النزعات الطائفية التي صار الانتماء إليها قسرياً في المواجهة ، وهي نزعات يضرمها الجنون العاصف الذي جلبه العنف حين أخفقت أغصان الزيتون في أن تحقق دعوتها إلى التغيير بالطرق السلمية الحضارية.
لقد كان عنوان مقالتي السابقة (من ينقذ سوريا؟)، وأعلم أنه لا أحد سينقذها سوى الله، فالدول الكبرى تبدو غير معنية حقيقة بما يعانيه الشعب السوري، وهي تقيم ندوات ومؤتمرات أحياناً لفض العتب الأخلاقي، وتقدم مبادرات تمد أمد الفجيعة، وتمد وسائل الإعلام بما يصلح للتحليل أو التهليل، حتى بات مكروراً، ولا يأتي بجديد غير المزيد من الفواجع التي فقدت الإثارة أيضاً.
ومع تصاعد الأحداث الدامية يكبر التخوف من أن يطول أمد الصراع الذي صار مسلحاً بين فريقين هما أبناء جسد واحد، هو الجيش العربي السوري الذي خدم كل الشباب السوريين فيه خدمة وطنية إلزامية، وكان الضمانة الكبرى لأمن الوطن وسلامة المجتمع وسيادة الدولة، لكن الانشقاقات المتوالية التي تكون منها الجيش الحر جعلت الجيش السوري ينشطر إلى مكوناته المذهبية، وهو الجيش العقائدي العلماني الذي انكشف عنه الغطاء، فإذا هو يشعل تحت الرماد مشاعر الانتماءات الصغيرة التي باتت تهدد المستقبل.
ولم تنجح الهتافات التي نادت شهوراً في التظاهرات (الشعب السوري واحد ) بإثبات كونها حقيقة، وقد تساءلت في مقالاتي السابقة مرات عما إذا كان وهماً ما كنا نعيشه من زهو بوحدتنا الوطنية وإشادة بالتماسك الاجتماعي، والعيش المشترك، وهي تساؤلات تهدف إلى تذكير الناس بأن الجامع بينهم هو الانتماء إلى الوطن أولاً، وكان الخطر في تحول قضية الشعب من مطالبة بالإصلاح والتغيير إلى صراع طائفي، وهي غلطة تاريخية ستمد ظلالها القاتمة على المستقبل.
وقد تحدث المحللون طويلاً عما سموه سيناريوهات المستقبل في سوريا، بعضهم رأى أن شبح التقسيم يلوح حلاً محتملاً في الأفق ولا بديل عنه، وأن هناك دولاً ستدعم هذا الحل الذي ستهلل له إسرائيل، لأنه سيحقق لها حلماً كان عسير المنال، وهو إضعاف سوريا وإخراجها من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، وهي التي كان تحرير فلسطين هدفها المعلن وحامل الشرعية الوطنية لسياساتها الداخلية والخارجية، وأي اجتراء على التقسيم سيفتح شهية بعض الأقليات والإثنيات للمطالبة بنصيب من الكعكة السورية التي ستكون سامة آنذاك.
وربما يجنح بعض المحللين إلى افتراض اتساع رقعة التقسيم، التي قد تعيد النظر في الحدود التي رسمها سايكس وبيكو قبل نحو مائة عام، وهذا يعني تغيراً في الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة ، وهو احتمال يهدد لبنان والأردن والعراق وتركيا، ويفتح بوابات الجحيم على المنطقة كلها.
وأما السيناريو الثاني، فهو يتوقع أن يتمكن النظام من الانتصار على معارضيه وإجبارهم على الاستسلام، وهذا يستدعي مضاعفة العنف واتساع رقعته، وإراقة شلالات مريعة من الدماء، وهدم كل ما في البلد من عمران وبناء، وعندها سيكون الانتصار على الجثث والأشلاء، وسيواجه العالم مشكلة اللاجئين السوريين، وسيكونون بالملايين ممن لن يجرؤوا على العودة إلى وطنهم حيث تلاحقهم تهم الخيانة والإرهاب.
وأما السيناريو الثالث فهو يفترض استمرار الصراع وتصاعده، مع بقائه غير متكافئ عسكرياً، لكنه سيكون قابلاً أن يتحول إلى حرب داخلية طويلة الأمد، يمكن الاستمرار فيها على الطريقة اللبنانية سنوات يعتاد فيها السوريون على مواجهة الموت اليومي، ويتعايشون فيها مع أصوات الانفجارات والقنابل، وتتحول عبرها سوريا إلى ساحة حرب دولية تشارك فيها قوى عالمية، ولا تتوقف الحرب فيها إلا بالدمار الشامل، وبتحول سوريا إلى أرض يباب.
ويتوقع السوريون أن يتفاعل العالم بجدية مع قضيتهم حين تنهار البنى التحتية تماماً، ويعم الخراب، وتعود سوريا بلداً متخلفاً يحتاج إلى مائة عام من الإعمار، فضلاً عما سيكون قد لحق بالشعب من فواجع لا شفاء لها.
ويبدو أن سيناريو الحوار لم يعد مدرجاً بين الحلول، وكنت أجده الحل الأمثل لكن تطور الأحداث جعله خياراً مشروطاً من المعارضة والسلطة معاً ، لكن الحوار على كل حال سيكون خاتمة المطاف، فلابد من تفاهم تفرضه الضرورة في النهاية.
إن أخطر ما في الموقف اليوم هو ما يشعر به السوريون من حالة الإهمال الدولي، ولئن كانت بعض الدول العربية قد سارعت بقبول التلاميذ السوريين اللاجئين في مدارسها الحكومية لهذا العام الدراسي، فإن استمرار حالة اللجوء في أوضاع معيشية غير إنسانية أمر مفجع لكل سوري، فلابد من تدخل جاد على الأقل لإنهاء حالة التشرد في الداخل والخارج، وفصل الشتاء يقترب، ومعاناة السوريين أكبر من أن تحتمل أو تطاق، وليس معقولاً أن يدخل السوريون في الشتات أو المنفى وبينهم مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ.
ويبدو أسوأ ما في الموقف الراهن أن يكون الاحتكام إلى السلاح هو الحل الوحيد المتاح، والعالم يتفرج على السوريين وبعضه يصفق للقاتل، وبعضه يتعاطف مع المقتول، لكن القاتل والمقتول سوريان وأية خسارة على الجبهتين هي خسارة لسوريا وشعبها، وقد بات أمراً فظيعاً توصيف النصر كما يراه المؤيدون في انهيار العمارات ومقتل المئات تحت الأنقاض، أو قصف قرية أو حي من الأحياء بالمدفعية والطائرات، كما هو توصيف مريع للنصر على الضفة الأخرى في قتل جنود بسطاء يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش السوري، ما يجعل الصراع مفتوحاً على حافة الجنون.
صحيح أن صوت الحكمة يخفت أو يصمت حين يعلو صوت أزيز الرصاص، ولكن حين تغيب الحكمة ويبقى الجنون وحده يكون خيار شمشون وحده النهاية المريعة المفجعة، وهو كما علمنا التاريخ خيار الخاسرين.

صحيفة الاتحاد الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى