«بسترودس» مقهى أسطوري طُمست هويته الثقافية (سامر سليمان)

 

الإسكندرية – سامر سليمان

لم يستطع الإرث الحضاري ولا الثقافي الصمود طويلاً أمام رياح الإغراءات المادية القاسية، وأمواج المصالح الاقتصادية العاتية، التي جرفت في طريقها الهوية الثقافية والتراث الحضاري والمعماري لكثير من المباني الأثرية في الإسكندرية، منها بسترودس… هذا المقهى الأسطوري الذي استطاع أن يصمد 90 عاماً ليحكي حلقة ممتدة من تاريخ الإسكندرية ونكهتها الكوزموبوليتانية المميّزة.
يقع مقهى بسترودس قرب المسرح الروماني أهم المناطق الأثرية في الإسكندرية، وتطل إحدى واجهتيه على شارع فؤاد وتمتد حتى سينما أمير، والأخرى على شارع الحرية في مواجهة سينما ريو وعلى مسافة خطوات من أوبرا الإسكندرية. تحكي جدرانه الداخلية بألوانها الكلاسيكية وألواحها الخشبية القديمة، وسقفه الخشبي العتيق الذي تتدلى منه ثريات عملاقة بمصابيح من البلّور على الطراز الإسباني، ومقاعده من خشب الأرو بمساندها الرقيقة المطبوعة والمحاكة يدوياً، الكثير من حكايات مشاهير الفن والسياسة.
يعود اسم بسترودس إلى مغامر يوناني استقر في الإسكندرية وأسس مخبز حلويات باسمه عام 1923 بعد مغامرات وأسفار عدّة جاب خلالها العالم.
وعام 1930 ورث ابنه أثاناش بسترودس المخبز وأقنعته زوجته السويسرية غابرييل بتوسيع المخبز ليصبح مقهى ومطعماً، وأنشأت قسماً خاصاً بالمعجّنات واستُحدث قسم «متنزّه الشارع» حيث المقاعد الصيفية القابعة فوق الرصيف، المصنوعة من خشب البامبو بمساندها الوثيرة المزركشة بالزهور الطبيعية المنسجمة مع أصص الفانباخيا والياسمين الهندي والريحان والفل. وازدادت شهرة المكان بعدما بدأ الملك فاروق التردد إلى المطعم.
وفي الأربعينات اشترى أثاناش مطعم «المونسينيور» على الواجهة البحرية، وضم قاعة أفراح أقيمت فيها حفلات الزفاف الأكثر شهرة في ذلك الوقت، كما أقيم العديد من الحفلات الراقصة خلال سنوات الحرب. وفي التسعينات جُدد المطعم مع احتفاظه بالديكور والأثاث بالأسلوب القديم. ولم تختلف قائمة الطعام كثيراً.
ومن المشاهير الذين عشقوا المكان الشاعر الكبير الملقب بنبض الإسكندرية كفافيس الذي كتب كثيراً من أشعاره في «متنزّه الشارع» ولورانس داريل صاحب الرباعيات السكندرية الشهيرة، وكان المطعم المكان المفضل للرئيس الراحل أنور السادات.
وأخيراً مطلع هذا القرن، لم يستطع ورثة بسترودس مقاومة الإغراءات المادية ولم يعنِهم كثيراً طمس هوية المكان الثقافية فباعوا في البداية أكثر من نصف المكان للبنك الأهلي، وأجّروا الجزء المتبقي لمطعم «أبو السيد»، ما أفقد المكان رونقه ولم يتبق من بسترودس إلا بعض من ذكريات تحملها ذاكرة السكندريين وبعض عشاق الإسكندرية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى