المهمشون في تاريخ مصر الحديث .. يكشف المسكوت عنه

 

 

 

القاهرة ـ من وكالة الصحافة العربية

شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً متزايداً بدراسة الفئات والشرائح الاجتماعية المهمشة داخل مصر وخارجها، من جانب علماء الاجتماع والسياسة والقانون، هذه الفئات التي تضم: سكان العشوائيات، الغجر، المتشردين، المتسولين، الباعة الجائلين، البلطجية، وغير ذلك من الفئات الحضرية التي تميزت بخصائص لافتة للنظر ذات دلالة اجتماعية خاصة داخل النسق الاجتماعي – أو خارجه – واحتلت مكانة هامشية في حياة المجتمع، إذ نبذت طبقياً من الجماعات الأخرى أعلى السلم الاجتماعي.
هذه الجماعات كانت محور كتاب "الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث"؛ للدكتور سيد عشماوي حيث يصف دراسته بأنها مخاطرة علمية إذ تحاول اجتياز إحدى الطرق الصعبة الحساسة في تاريخ مصر الحديث، لما هو مسكوت عنه أحياناً في الدراسات العلمية ذات الصبغة التاريخية.
وتنظر الدراسة بعين القلق إلى بعض ظواهر عصرنا وبصفة خاصة تزايد الجماعات الهامشية أشكالاً وألواناً وترتد الدراسة – وعلى وجه التحديد التاريخي – إلى الفترة التي تمتد من أواخر العصر المملوكي حتى البدايات الأولى لبناء دولة مصر الحديثة على يد محمد علي.
ويلجأ الباحث إلى بعض الخطط والقواميس الجغرافية لتبين التواجد والانتشار السكاني لبعض هذه الجماعات ليس فقط في أطراف القاهرة، ومناطق مصر المختلفة. وأشار إلى بعض الأماكن خارج القاهرة مثل قرية الحرافشة بمديرية جرجا وطوخ الحرامية وكفر اللصوص بمديرية الشرقية، ومنشأة خلبوصي، ولم يقتصر الكتاب على السرد التاريخي الممل أحياناً والمخل في أغلب الأحيان ولكنه حاول بقدر المستطاع وضع هذه الجماعات في سياقها التاريخي، أو بمعنى أصح حاول أن يربط نمو هذه الجماعات وازديادهم في بعض الفترات بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وركز على أن عنف هذه الجماعات كان مرتبطاً بشكل أو بآخر بعنف السلطة وتعسفها.
وتتبع الدراسة مسار بعض هذه الجماعات وهم النشالون واللصوص على وجه التحديد لتنتقل من رؤية أحادية الجانب تنظر إلى عمليات السرقة والسلب والنهب وقطع الطرق المرتبطة بهذه الجماعات، إلى رؤية أخرى تستكمل الوجه الآخر من العملة، رؤية الدور السياسي الذي لعبته بعض هذه الجماعات في تاريخ مصر الحديث، حيث تم الالتقاء بين العوام وأولاد القرافة والحارات البرانية، هؤلاء الذين وصفوا بالأسافل الأوغاش والأراذل الأوباش.

• جذور الحاضر

وتزداد أهمية الكتاب لدوره في تعميق الوعي بالحاضر ومعرفة جذوره في الماضي وإدراك دلالات الوقائع والظواهر التاريخية بمراعاة العلاقة الجدلية بين كينونتها وصيرورتها، حيث يرصد الكاتب أفراد الجماعات الهامشية الذين يعيشون على حافة المجتمع دائماً ولكونهم غير مندمجين فيه فهم أضعف صلة من الفئات والطبقات الكادحة الأخرى خاصة أهل الفلاحة وأصحاب الحرف بنظام القيم والأعراف الشرعية، ومن ثم تتميز بقلة استجابتها لما تبديه الطبقات المسيطرة من مزاعم الإصلاح سواء للبلاد أم للعباد، وبعدها عن النمط السائد في المجتمع جعلها تفلت من كل محاولة لرصد تحركاتها على المسار الاجتماعي. وبالتالي يصعب تقدير أعدادها إحصائياً لعدم وجود المعلومات المتوفرة، والكتابات التاريخية لا تتعرض لها إلا لماماً وفي فترات متقطعة وبين ثنايا السطور خاصة إبان الأزمات الاقتصادية السياسية، ورغم وجود بعض الكتابات التاريخية عن "العوام" في تاريخ مصر المملوكية – العثمانية فإن تحليل دور الجماعات الهامشية كان نادراً في أغلب الأحوال مما يؤكد على ضرورة الدراسات الحديثة والمتعمقة لمثل هذه الجماعات.
وتحاول الدراسة رصد الجذور التاريخية لنمو هذه الجماعات المهمشة، وهي وإن سجلت صفحات من تطور هذه الجماعات والذي يخضع دائماً لعنصر التغير من زمن لآخر، فإنها تعرض للقارئ غير المتخصص بعض ملامح الظروف التاريخية العامة التي نمت فيها هذه الجماعات، أو بمعنى آخر فإن نمو هذه الجماعات ارتبط بسياق تاريخي سياسي – اجتماعي – اقتصادي واسع حيث لا يمكن الفصل بين هذا التطور وتطور المجتمع المصري الحديث.
وأول ما يلاحظ في هذا المجال أن نمو هذه الجماعات تواكب مع تصاعد الانهيار السياسي الاقتصادي وبصفة خاصة إبان الحروب والصراع الداخلي بين الجماعات العسكرية خاصة إبان الانقسامات بين الأمراء المماليك بعضهم البعض الذين كانت معظم أيامهم فتن وحروب وشرور على حد تعبير الجبرتي.
وفي هذا "الزمان الكالح" الذي تزخر فيه المؤلفات التاريخية المعاصرة بعرض نماذج متعددة للصراع السياسي – العسكري والذي أفردت له مؤلفات خاصة وازداد نشاط هذه الجماعات في ظل حالة من الانفصال بين معايير شرعية الدولة والمجتمعات المحلية وانهيار الأبنية الاقتصادية – الاجتماعية بشكل عام – ورغم تحامل المؤرخين على هذه الجماعات فقد أستعين بها في بعض الأوقات خاصة الأوقات التي هددت كيان الدولة وكيان المجتمع وعلى نحو ما حدث بصفة خاصة أيام السلطان الغوري وطومان باي وفي زمان الحملة الفرنسية على يد مصر وفي بعض الأحيان تمتع بعض أفراد هذه العصابات بمساعدة أفراد من المجتمعات المحلية على نحو ما حدث مثلاً لقاطع الطريق "زغلول" أثناء فترة حكم محمد علي وكان بعض أمراء المماليك يستعينون بهم لضرب بعضهم البعض أحياناً وفي معظم الانتفاضات وأعمال التمرد على النظام السياسي والعسكري والاقتصادي كانت هذه الجماعات جزءاً لا يتجزء من التركيبة الاجتماعية للنسق المصري، وكانت أقرب إلى مصالح العوام والمعدمين خاصة في الهبّات الكبرى إبان العصر العثماني، خاصة هبّات المجاعة والغلاء فلعب هؤلاء الدور الأساسي وكانوا في طليعة الثائرين.

• عنف المهمشين

وإذا كان بعض الدراسين يركزون على عنف هذه الجماعات الهامشية وما يقومون به من أعمال سلب ونهب وقطع طريق وسرقة أو بمعنى أشمل وأصح كل ما تقوم به من أعمال لصوصية فإنهم يتجاهلون – ولو دون عمد – أن هذه الأعمال كانت في بعض الأحيان رد فعل عميق على عنف الدولة وأجهزتها وعجزها في أن تحتوي تعديات الموظفين المحليين على أهل البلاد والعباد وإرهاقهم "غلاء وسوء كيل" والتضييق عليهم وجرهم إلى الخراب وإلى اليأس رغم إيمانهم بأن دوام الحال من المحال.
كان لا بد أن يكون رد الفعل بعدة مظاهر تتكاثر وتنمو: من التمرد العنيف إلى الهروب والتسحب والانضمام إلى جحافل هذه الجماعات الهامشية أحياناً وبصفة خاصة اللصوص وقطاع الطرق الذين انتشروا بصفة خاصة في أنحاء مختلفة من السلطنة العثمانية اعتباراً من القرن السابع عشر وهي عصابات كانت تشن هجمات جسورة على الأغنياء والأقوياء لتجتذب إعجاب وتعاطف الفقراء، وتقدم لهم نوعاً من الثأر، وتشكل مغامراتها المبالغ فيها الموضوع الرئيسي من السير والأغاني الشعبية هذا الثأر الذي كان نوعاً من العنف المضاد لمواجهة عنف الدولة.
أيضاً يرتبط نمو هذه الجماعات الهامشية بطبيعة الأوضاع الاقتصادية التي سادت آنذاك، ففي تلك الأزمنة لم تكن عمليات السلب والنهب قاصرة على مناطق الجذب والثراء مثل الأسواق والدكاكين والخانات وبيوت الأمراء والحواصل المليئة بالغلال وسفن الملاحة البحرية بل امتدت هذه الأعمال في بعض الأحيان إلى بيوت أولاد الناس وإلى الفقراء في أحيان أخرى حيث تكاثر اللصوص يسرقون الأحياء والأموات.
ويذكر أحد الرحالة الأتراك لمصر في القرن السابع عشر "في مصر كثيرا من لصوص المقابر الذين يسرقون الأكفان حتى أنه في عهد جان بولاد زاده حسين باشا وضع بعض لصوص المقابر على الخاذوق في ميدان الروملي وخنقوا بالأكفان التي سرقوها".

• الفلاكة!

ويشير المؤلف إلى ارتباط نمو هذه الجماعات الهامشية التي مثلت المرتبة الدنيا السفلى في البناء الاجتماعي بتزايد جماعات "الفلاكة" الذين يجمعهم الفقر والبطالة والإحساس الحاد به وعجزهم عن التوصل إلى نصيب عادل من وسائل العيش. هذه الجماعة هم كما وصفهم أحد الفقهاء الذين أصابهم الإهمال والحرمان بأنهم "هم الذين أولى الله عنهم الدنيا ولغوياً المفلوك مشتق من الفلك"، ومعناه على سبيل التجاوز أنه ذلك الذي يعارض الفلك في مداره والرجل المفلوك هو "غير المحظوظ المهمل في الدنيا لإملاقه وفقره".
وقد أقام بعضهم في الأطراف لبعدها النسبي عن مركز الإدارة والحكم، ولأن البعد عن الحاكم غنيمة، الأمر الذي يكفل لهم الكر والفر، وقد لجأ بعض أولئك إلى العنف والتمرد والخروج عن كل ما هو سائد من أجل تأمين الحد الأدنى للمعيشة.
ويورد المؤلف في كتابه ما ذكره الأبشيهي في "المستظرف" عندما مر عمر بن عبيد بجماعة وقوف فقال ما هذا؟ قيل له "السلطان يقطع سارقاً" فقال لا إله إلا الله سارق العلانية يقطع سارق السر؟!"

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى