‘الموريسكي الأخير’ ترفض الحكم على أساس ديني

“الموريسكي الأخير”هي الرواية الخامسة في مسيرة الشاعر والكاتب صبحي موسى، وفيها يرصد موسى أحوال المسلمين الذين ظلوا في الأندلس بعد سقوط غرناطة، والذين اضطروا إلى التظاهر بدخول المسيحية بعد صدور قرار من قبل الملكين الكاثوليكيين إيزابيلا وفرناندو بتنصير كل من على أرض المملكة، وحرق كل الكتب العربية ومنع ارتداء الزي العربي أو التحدث باللغة العربية أو حمل ألقاب أو أسماء عربية، لتصبح المواطنة في بلدان الأندلس على أساس ديني كاثوليكي، ولتبدأ محاكم التفتيش في مطاردة كل تشك في كونه ليس مسيحياً مخلصاً ليدخل إلى معاقل التعذيب ومصادرة الأرض والأموال وربما مواجهة الموت حرقاً أو شنقاً، ونادراً ما كان ينجو من براثنها أي ممن يتهمون بتهم الهرطقة أو البقاء على دينه القديم.

لعب موسى في هذه الرواية على ثنائية الزمن بين الحديث والقديم، فقد بدأت الرواية بفصل في ميدان التحرير يرصد وقائع ثورة المصريين ضد مبارك ونظامه، ليكون هذا الفصل خطاً ظل يتقاطع في مساره مع الخط القديم الذي يرصد حياة الموريسكيين في الأندلس حتى تهجيرهم عنها ما بين أعوام 1609 حتى 16013، وذلك عبر شخصية مراد رفيق حبيب وابنة عمته ناريمان وسعيهما لاسترداد وقف العائلة الذي خصصه جدهما الملتزم عطية الله لعائلة الموريسكي ورواق المغاربة بالجامع الأزهر.

ظل هذا الخط يمتد ليرصد أحداث الثورة المصرية في ظل حكم المجلس العسكري وأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وبرلمان الإخوان حتى وصول الإخوان إلى الحكم، لنجد أنفسنا أمام لحظة تتشابه مع التاريخ القديم، حيث محاولة فرض دين بعينه على المصريين، وظهور جماعات دينية موالية أخذت تقوم بدور محاكم التفتيش، لتنتهي الرواية وتلك الحقبة بسقوط حكم الإخوان في الثلاثين من يونيو، وليتحول الإخوان من جماعة كانت ترغب في فرض دينها إلى جماعة راغبة في هدم الدولة المصرية التي فشلت في جمع شملها.

يمكن القول إن لعبة الزمن وتفتيته وتقسيمه على عدة مسارات كانت الحاكم الرئيس في رواية “الموريسكي الأخير”، فقد قام كل زمن سواء القديم أو الحديث على عدة أزمنة، أولها الحاضر ثم الماضي والماضي التام، ففي الزمن القديم قام الجد محمد بن عبدالله بن جهور بكتابة يوميات وأحداث ثورة البشرات الكبرى التي شارك فيها هو ووالده، كما كتب أحداث الطرد التي شهدها بنفسه حتى مات في شفشاون بالمغرب بعد سنوات من الطرد.

وفي خلال ذلك جاء الماضي البسيط الذي حكي فيه عن أولى ثورات الموريسكيين في الأندلس وهي ثورة البيازين عام 1495، أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة، وهذه الثورة التي كانت جدته سبباً فيها حين خرجت بجواريها وخدمها إلى السوق فاعتدى الجنود الإسبان عليهم، مما جعل المسلمين يتجمعون لنصرتها فقامت الثورة التي سيطروا فيها على حي البيازين واعتلوا أبراجه مغلقين أبوابه على أنفسهم معلنين مجلساً ثورياً لقيادتهم، لكن هذه الثورة لم تستمر كثيراً، فسرعان ما أبدى الإسبان جانب الود وتنازل الثوار عن غضبتهم وفتحوا أبوابهم للإسبان الذين سرعان ما غدروا بهم وقاموا بتهجيرهم خارج البيازين وغرناطة، ثم جاءت إيزابيلا بنفسها إلى غرناطة لتعلن قرارها بالتنصير الإجباري على كل من في الأراضي الإسبانية، ولأن الغالبية العظمى منهم كانت من المسلمين، وقلة قليلة كانت من اليهود، فقد ظهر مصطلح “الموريسكيين” الذي يعني النصرانيين الجدد، وهو مصطلح مأخوذ من كلمة “مورو” أي مغربي، فكل مسلم بالنسبة لهم كان مغربياً لأن المغرب كان المحطة التي انطلق منها المسلمون من الشاطئ الجنوبي للمتوسط إلىالشاطئ الشمالي له.

أما الماضي التام فكان ضرورة لإعطاء مقارنة بين ما يحدث الآن في العالم العربي من تقسيمات ونزاعات وحروب الطائفية، وكان هذا الزمن بعد سقوط الخلافة في قرطبة وظهور ملوك الطوائف واستعانتهم بالإسبان أو القشتاليين لمحاربة بعضهم بعضا، ومن ثم فقد رصدت الرواية هذه الحالة من الفوضى التي سادت قرطبة مع ظهور البربر بها، والتي انتهت بإنهاء الخلافة وتولي بني جهور الحكم، ليصبح الحزم ابن جهور هو الجد الأول في الرواية لعبدالله بن جهور بطل أحداث ثورة البشرات العظمى ومؤسسها، بينما ابنه محمد هو كاتبها وراصد ما حدث من بعدها حتى ثورة بلنسية التي انتهت بقرار الطرد.

في الزمن الحديث ثمة أزمنة ثلاثة أيضاً هي الحاضر الذي يرصد فيه مراد الموريسكي أحداث الثورة منذ 25 يناير/كانون الثاني حتى 30 يونيو/حزيران، وهناك الماضي البسيط الذي حدث مع أسرة عقب جمع جده حبيب الله لهم في بيت واحد عرف ببيت الموريسكي، لكنهم جميعاً اختلفوا مع بعضهم حول عمادة أي منهم للبيت، وقاموا بما يمكن تسميته بثورتين على عميد العائلة، كانت الأولى في زمن الجد سميح، والثانية في بداية عهد الجدة جنى، وفي كلا الثورتين خرجوا من بيت الموريسكي تاركين العميد وأبناءه وحدهم، لكن من خرج لم يعد من جديد ولم يعثر له على أثر.

أما الماضي التام فقد جاء على امتدادين، الأول كان امتداد الأجداد الذين أعقبوا وفاة محمد بن عبدالله بن جهور وما حدث لهم، ومن بينهم عطية الله الذي عمل ملتزماً قبيل مجيء الحملة الفرنسية، وأوقف كل ما يملكه بناء على أمر من جده عبدالله بن جهور الملقب بالعين الراعية للموريسكيين، وحبيب الله بن عطية الملتزم الذي عمل بالبحرية المصرية في حروب محمد علي بالشام ووصل إلى نائب قائد البحرية، وحصل بعد تقاعده إثر هزيمة محمد علي وتوقيعه على معاهدة لندن على جفلك بمائتي فدان، وأمره جده بأن يجمع ابناء عمومته ليقيموا معه في أرضه لكنهم رفضوا فكان مصيرهم الشتات والهوان، ثم أمره بعد سنوات وعذابات طويلة بجمعهم من جديد فبني لهم بيت الموريسكيين في القاهرة الاسماعيلية، وتحديداً في شارع سليمان باشا الفرنساوي الذي تحول إلى شارع طلعت حرب.

هذا الامتداد الزمني تكفلت به الجدة جنى وهي تحكي لحفيدها مراد ما حدث للموريسكيين ومنهم، مطالبة إياه باستعادة وقفهم والكتابة عن تاريخهم على غرار ما كتب جده محمد بن عبدالله بن جهور عهده القديم.

أما الامتداد الثاني فقد تكفل به ضابط المخابرات الذي حصل على دكتوراه في التاريخ الإسباني، وفيه رصد موسى نضال ما عرف بأعقاب الموريسكيين في الأندلس من أجل التحرر والحصول على وطن قومي في أقليم الأندلس، واضعين أكثر من دستور لإسبانيا على أساس كونفدرالي يحفظ للأندلس هويتها التاريخية والموريسكية، ويمنحها علم المعتمد بن ابن عباد في اشبيلية رمزاً لهم ولثقافتهم، حتى مجيء بلاس انفانتي الذي يعد أبوالقومية الأندلسية، والذي مات على يد جنود فرانكو ديكتاتور إسبانيا الذي قتل كل معارضيه، والذي ترك زوجته وابنه لويس يكملان مسيرة النضال حتى أقر الدستور الإسباني بعد فرانكو حلم الموريسكيين في وطن قومي على إقليم الأندلس، لكن لويس يعتزل السياسة ويهاجر إلى استراليا ليلتقي بأسرة ناريمان التي هاجرت أيضاً في مطلع السبعينات لتقيم مؤسسة صحفية هناك، وفي النهاية تحمل نورهان اسم راشيل لويس بلاس انفانتي وتصبح شريكاً في وكالة إعلامية كبرى في إسبانيا، ثم تأتي لمصر ضمن مخطط دولي ساعٍ لصعود الإخوان وإيجاد حل لقضية الموريسكيين المسلمين والللاجئين الفلسطينيين، لكن هذا الحل في ظل الطرح الإخواني وقتئذ لا يكون إلا على أرض سيناء، وبفشل التجربة الإخوانية تضيع كل الأحلام بما فيها وقف الموريسكيين وبيتهم وحتى فكرة جمع شملهم في مكان واحد، وتختفي نورهان مثلما تموت الجدة في مشهد غرائبي لا ينبئنا إن كان موتا أم اكتشافا لهذا الموت.

في هذه الرواية لعب موسى بحرفية بالغة مع التاريخ مثلما حدث في رواياته “صمت الكهنة”، “حمامة بيضاء”، “المؤلف”، “أساطير رجل الثلاثاء” التي فازت بجائزة أفضل عمل روائي في معرض القاهرة لعام 2014، وتجلت قدراته في هذا اللعب عبر دمجه ما بين الأسطوري والتاريخي والواقعي، واستحداث شخصيات ذات أبعاد تاريخية حية لدمجها في سياق عمله بفنية كبيرة.

وتعد هذه الرواية أول عمل يرصد واقع الموريسكيين وثوراتهم، ليس من منطق رصد ظلال الحياة السياسية على الواقع الاجتماعي، ولكن من خلال رصد يوميات الواقع السياسي للموريسكيين من خلال الشخصيات الرئيسية التي قامت به، كما أنها أول رواية تطالب بحق الموريسكيين المسلمين في الاعتذار لهم ومنحهم المواطنة والجنسية الإسبانية على غرار ما فعلت إسبانيا مع الموريسكيين اليهود، فهل يمكن أن يستجيب الإسبان لنضال الموريسكيين ورد اعتبارهم، أم أن الرأي العام العالمي سيظل ينظر ويشاهد وكأن شيئاً لم يحدث، رغم أننا أمام قضية لا تقل فداحة عن قضية إبادة الهنود الحمر.

يذكر أن هذه الرواية كانت قد كتبت بمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون “آفاق“، التي فاز بها الكاتب عام 2013، وأنه عكف على كتابتها على مدار عامين لتصدر في نهاية معرض القاهرة الدولي للكتاب عن الدار المصرية للبنانية.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى