العالم في حالة حرب
العالم في حالة حرب… كثيرة هي الكتب والأفلام الوثائقية التي تناولت الحرب العالمية الثانية بكافة تفاصيلها وآثارها وأسرارها، ولقد قرأـت عدداً من هذه الكتب وشاهدت بعضاً من تلك الأفلام حتى صادفت مؤخراً سلسلة وثائقية بعنوان ” العالم في حالة حرب” وأعتقد أنه قد أنتج منذ عقود خلت. ما شدني إلى هذه السلسلة الوثائقية ذلك التفصيل الدقيق لمجريات تلك الحرب وللمشاهد الوثائقية التي لم أشاهد مثلها من قبل، وأستطيع القول أن هذا العمل الوثائقي الضخم كان غنياً بتفاصيله وثرياً بتحليلاته، لكن الأهم من كل ذلك هو تفاصيل إرادة الحياة عند البشر وإرادة إعادة إحياء الحياة من قلب دمار لم تشهد البشرية مثيلاً له.
لقد سويّت بالأرض الكثير من المدن الأوروبية أثناء تلك الحرب، وفقدت العديد من المناطق كل ما يتعلق بمظاهر الحياة ومضى الملايين من البشر إلى حتفهم، إلا أن تلك المدن والمناطق عادت بكل ألقها وجمالها، وكثير منها عاد بتفاصيل شوارعه وأبنيته قبل تعرضها للدمار. هذا بحد ذاته إنجاز بشري يفوق برأيي أي إنجاز آخر قدمته البشرية لأنه شكل ومازال يشكل ظاهرة خالدة على تحدي الحياة في مواجهة الدمار والحروب والمآسي وفي مواجهة تلك الشراسة الهائلة التي تحكمت بكل شيء في لحظة تاريخية من الجنون التي أطلقت الحرب العالمية الثانية على مصراعيها.
لا شك أن هناك جملة من الدروس التي قدمتها ومازالت تقدمها تلك الحرب العالمية ولعل أبرز تلك الدروس هي مسألة التشابكات والمصالح المعقدة في سياسات الدول التي تلتقي في لحظة تاريخية عند قيادات تمتلك الرعونة الكافية لإشعال الجحيم وفتح بواباته للوصول إلى طموحاتها التي تأخذ شكلاً مرضياً يحيد العقل ويفسح المجال للجنون كي يتحكم بمصائر الأمم. ما أشبه البارحة باليوم، وما أشبه ما شهدته الشعوب في تلك الحرب الطاحنة بما شهدناه في وطننا منذ قرابة الثماني سنوات. نعم، ففي لحظة من التاريخ التقت التشابكات والمصالح الإقليمية والدولية عند نقطة لدى قيادات في المنطقة والعالم كانت جاهزة للتضحية بهذه الأرض ومن عليها إرضاء لخطط أعدت منذ زمن لتلبي غرائز وأحلام وطموحات التوسع والقيادة ورسم الجغرافيا وإدارة الاقتصاد لدى تلك القيادات دون أي حساب لما قد يعانيه شعب ووطن ودولة من ويلات غابت أمام الرغبة الجامحة في تركيع شعبنا وإلغاء أي إرادة له والسيطرة على مقدارته وتاريخه.
يروي أحد الضباط الانكليز ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية ونجوا من أتونها واصفاً مشاعره بعد عودته إلى أرض الوطن بأنه لم يكن يشعر بأن أي شيء يعنيه، وأن كل ما حوله من تفاصيل الحياة بدا تافهاً مقارنة مع تجربة الحرب تلك، حتى أنه كان يشعر بالسخرية من الخلافات التي تسود الاجتماعات البلدية في منطقته حول توزيع صنابير المياه مثلاً. إلا أن مثل هذه الأمور اتضحت أهميتها له رويداً رويداً مع مرور الزمن.
لقد مر شريط ذلك البرنامج الوثائقي، وكان شريط ما قد شهدناه، ومازلنا نشاهده، يمر متداخلاً مع تفاصيل البرنامج بشكل يتطابق أحياناً معه. إننا نخوض الآن معركتنا ويبدو أننا على وشك الانتهاء من آلامنا إلا أن معركتنا القادمة لإزالة أنقاضنا المادية والروحية ستكون أعنف وتتطلب قوة أكبر وصبراً أكثر. لا أنفي على الإطلاق أن شعوب العالم وخاصة في أوروبا وآسيا قد عانت الأمرين في عودتها إلى الحياة، وأنه كان هناك الكثير من الأخطاء والقرارات غير المناسبة أو غير الصحيحة، وأن الفساد لم يكن ذلك المتفرج الكسول الذي تخلى عن دوره طائعاً، لكن إرادة الشعوب والشعور الوطني الذي تعزز مع نهاية الحرب كانت له الكلمة الفصل في العودة إلى الحياة وأكثر من ذلك في التطور الحضاري الذي تعيشه تلك الشعوب الآن.
ذاك هو أملنا في مواجهة الفساد.. والأخطاء.. والقرارات غير المناسبة.. والقرارات غير الصحيحة.. لنتعلم فن صناعة الحياة.