حربٌ إلى النهاية…هناك مقولةُ في عالم الأعمال بأنّ الحروب والأزمات في منطقتنا شرق المتوسّط لا تؤثّر بشكلٍ جدّيٍّ على البورصة والأسواق العالمية. «ما يحصل في شرق المتوسّط يظلّ في شرق المتوسّط»، قال أحدهم. هذا قد يكون صحيحاً من ناحية أنها بقعةٌ لا تمتلك نفطاً أو مواردَ طبيعية، ولا تقع على طريقٍ تجاري رئيسي، ولا تلعب دوراً أساسياً في الاقتصاد العالمي. ولكن، من ناحيةٍ أخرى، فإنّ الحروب حول فلسطين كان لها دوماً مغزى سياسي يتجاوز أهميتها الظاهرة. منذ حرب الـ56 ووصولاً إلى حرب تمّوز، كان كلّ حدثٍ «فلسطيني» و»مشرقي» هو أيضاً حدثاً عالمياً، بمعنى أنّه كان يؤشّر إلى تحوّلٍ كبيرٍ ما يحصل على مستوى الكوكب وموازين القوى. مرحلةٌ جديدة تعلن عن قيامها هذه الحرب «المحلية»، أو تترجمها، أو حتّى تقودنا إليها.
الصورة وما خلفها: «السابع من أكتوبر»
الصّورة الأولى، بالطبع، هي ضربة السّابع من أكتوبر. خرجت نظريات مؤامرة، بين العرب وغيرهم، بمعنى أنّ القيادة الإسرائيلية كانت على علم بالهجوم وقد «سمحت» به عن قصد. هذا طبيعيّ، ونحن شعبٌ توحّده هواية البحث عن المؤامرات واكتشافها واختلاقها، فكيف لا تخطر المؤامرة في بالك حين ينجح هجومٌ معقّد، مثل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بهذا الشكل المذهل؟ المفاجأة الكاملة، التخطيط، التنفيذ، كلّ شيءٍ قد نجح بشكلٍ لا يُصدّق. تمكّن المقاومون من الاختراق في كلّ المحاور، دخلوا مقرّ فرقة غزّة! لا يمكن لفشلٍ إسرائيلي وهزيمة أن يكونا أكثر وضوحاً.
العسكريّون سيجمعون لسنواتٍ قادمة تفاصيل تلك العمليّة، وكيف عطّل الفلسطينيون أنظمة المراقبة والدفاع الآلي، وكيف عبروا السياج إلى الجانب الآخر، وانتظروا قدوم الدبابات كي يضربوها من حيث لا تحتسب. وكيف تمّ الحفاظ على سرّيّة خطّةٍ بهذا الحجم، جرى الإعداد لها لأشهرٍ وبمشاركة الآلاف. ولكن، الآن في الحرب، السؤال الأساسي هو عن خطّة «اليوم التالي»: أنت تستغلّ عنصر المفاجأة في الحرب وتضرب الضربة الأولى لكي تحصّل امتيازاتٍ تسمح لك بحسم المعركة، أن تدمّر قوات رئيسية للعدوّ، مثلاً، أو تحتلّ أرضاً أو تمسك نقطةً محوريّة… من هنا، تعدّدت التفسيرات، منذ اللحظة الأولى، حول الهدف الفعلي لـ»حماس» من تنفيذ الهجوم. هل هو جزءٌ من خطّةٍ أوسع لا تقتصر على غزّة؟ هل هي فرصةٌ قد سنحت للتنفيذ فتمّ اغتنامها؟ أم، حتى، هل هو «عملية» قد نجحت أكثر ممّا كان متوقّعاً لها؟
أنا أميل إلى تفسيرٍ يقول بأنّ «حماس» والمقاومة تريدان، عن قصدٍ، استدراج العدوّ الى عملٍ برّيٍّ في غزّة. والعدوّ لن يجتاح غزّة الّا إن قمت بفعلٍ «كبير» يجبره على ذلك. نحن لا نعرف ولكن، إن كانت لديهم ثقة في قدرتهم على خوض حربٍ دفاعيّة، ومعهم عشرات الآلاف من المقاتلين في الأنفاق والتحصينات، حيث لا يكاد ينفع الطيران، فقد تنجح في تحقيق ما لم نتمكّن من فعله في بيروت. في هذه الحالة، فإنّ السيناريو الأسوأ قد لا يكون في الحرب والمواجهة، بل في استمرار الوضع كما كان عليه: أن تكون المقاومة «حاكمة تحت الحصار»، وإسرائيل تخسر حفنة من الجنود سنوياً مقابل عزل غزّة، ويتم استنزافها ببطءٍ فيما التطبيع يسير عربيّاً.
ويتمّ «الاعتياد» على الحصار كحالة دائمة إلى درجة أن يُقام، بكلّ شعورٍ بالأمان، حفل موسيقي صاخب على مرمى حجرٍ من القطاع. كلّ هذه الافتراضات قد انتهت إلى غير رجعة. وحين تندفع إسرائيل إلى خيار الغزو، وتبدأ بدرسه وفهم الخطوات التي أمامها، ستفهم بسرعة حجم الورطة. فلنفترض «السيناريو الأقصى»، وأن الجيش الصهيوني قد نجح – بشكلٍ ما – في احتلال غزّة وقمع «حماس» وفصائل المقاومة بالمعنى الرّسمي الظاهر.
هنا، كيف ستحكم مليوني فلسطيني الكثير منهم مدرّب ومنظّم وعدوّه منذ ولد هو الاحتلال؟ سوف تحتاج إلى أكثر من خمسين ألف جنديٍّ بشكلٍ دائم للسيطرة على غزّة وحراستها، وبدلاً من أن يخسر جيشهم خمسة جنود في السنة سوف يُقتل خمسة في كلّ يوم. من هنا، وليس من حاسّة الانتقام والكراهية وحدها، بدأت تخرج في إسرائيل، بسرعةٍ، الطروحات الإباديّة من نوع تهجير أهل غزّة ونقلهم إلى مصر ومحاصرتهم بالمجازر، فيما سلاح الجوّ يجعل من القطاع بأكمله مكاناً غير صالحٍ – بعد الحرب – للسكن والحياة.
حاملات الرسائل
الصّورة الثانية كانت دخول الأساطيل الغربية مياهنا مهدّدة. نعرف جميعاً أنّ إسرائيل لا تحتاج إلى «دعمٍ» من أميركا، أو مزيدٍ من الطائرات أو التكنولوجيا في وجه «حماس» ومن معها. هذه البوارج هي رسائل واضحة للعالم وللإنسان العربي، مفادها أنّ إسرائيل هي بلد من دول «المركز»، وليست بلداً تافهاً مثلك. هي كأنها جزءٌ من الـ»ناتو»، وسيأتون بأنفسهم للدفاع عنها إن تعرّضت لأيّ تهديد. إسرائيل، من غير شكّ، سوف تستغلّ الحرب لكي تحاول توريط أميركا في شيءٍ أكبر، ولكن واشنطن قد لا تريد خوض حروب تختارها لها إسرائيل. مع ذلك، هم أرسلوا سفنهم ليقولوا للصهاينة إنهم يضمنون أمنهم، ثمّ أعطوا قادة إسرائيل إذناً مطلقاً بأن يفعلوا ما يريدونه في غزّة، ولو كان خيارهم الإبادة.
لا بدّ من أنّ رد الفعل الأساسي لدى محمّد بن سلمان، حين يراقب هذه الصّورة، هو الحسد. إن كان يمكن تلخيص سياسات ابن سلمان في السنوات الماضية، فهي تتمحور حول هذه النقطة تحديداً: أن تنتقل السعوديّة إلى موقعٍ في «المركز»، سياسياً واقتصادياً، وأن يتمّ الاعتراف بها كذلك. أن لا تظلّ بلداً «طرفياً»، دوره الوحيد في النظام العالمي هو تصدير النفط والرساميل، مثل كازاخستان. بلدٌ يعيش على وقع أسعار النفط وستنتفي أهميته فوراً مع نضوبه.
أو يُترك «وحيداً»، كما اشتكى النظام السعودي، لكي يهزم في اليمن وتُضرب عاصمته ومنشآته الحيوية. مشروع التطبيع السعودي مع إسرائيل، أو العودة عنه، والشدّ والجذب في العلاقة مع أميركا، وفتح القنوات مع بعض خصوم واشنطن، تفسير هذا كلّه هو في رغبة ابن سلمان بأن تتمّ دعوته إلى «الطاولة»، وليس أي شيءٍ آخر. وهذا ديدن كلّ القوى «الثانوية» التابعة على مرّ التاريخ: أن تطمح إلى الارتقاء في مستوى علاقتها مع الحليف المهيمن. وهذا، في عالمنا، لا يمكن أن يحصل إلا وأنت صديقٌ لإسرائيل وحليف. أمّا على النقيض من طموحات وليّ العهد، فإنّ من يؤمن بالمقاومة يفهم من البوارج الغربيّة قاعدةً قديمة ولكن كثيراً ما يتمّ تناسيها: أنت لا يمكن أن تحرّر فلسطين، أو حتى تفرض على إسرائيل شيئاً، من دون أن تهزم أوّلاً أميركا وتتحرّر منها (أقلّه في إقليمك).
العجوز الحاقدة
الصّورة الثالثة كانت في خروج ذلك التصريح الأوروبي عن قطع كلّ المساعدات عن الفلسطينيين، ووضع شروطٍ سياسية عليهم الالتزام بها (من نمط أن يتعلّموا حبّ إسرائيل وأن يتوقفوا عن كراهيتها)؛ هذا قبل أن يتمّ التّراجع رسمياً عن هذا الطرح. وذلك لم يكن لأنّهم يرون الإجراء خطأً بل لأنه «مستعجل»، لم يحن أوانه بعد.
الفكرة هنا واضحة، وهي كانت دوماً واضحة لمن يريد أن يرى: هل كنت تعتقد أنّ هذا المال مجّاني؟ هل صدّقت الأسطورة عن مساعدات من غير مقابل؟ هل كذبوا عليك وقالوا إن النفوذ الأوروبي هو غير النفوذ الأميركي، والأخير غير النفوذ الإسرائيلي؟ كلّ من يعمل لدينا، كلّ من يأكل من مالنا، كلّ من يعيش على أرضنا، سوف تُقدّم له فاتورة سياسية في وقتٍ ما، وسيكون عليه أن يلتزم. حتّى التعبير اللفظي سوف يُحاسب عليه.
المشكلة هنا هي أن الأوروبيين هم آخر من يحقّ له أن يتكلّم مع الفلسطينيين بهذه الطّريقة. لا شيء أسوأ من أن تستمع إلى مسؤول أوروبي أو مسؤولة سويديّة وهم «يؤنّبون» المحاصَرين ويحاضرون فيهم ويطلبون منهم أن «يجلسوا بهدوء» في قطاعهم ولا يزعجوا إسرائيل. هناك أناسٌ كثر قد ولدوا وعاشوا وماتوا في غزّة تحت ظروف الحصار، لم يعرفوا غيرها. وأجيالٌ كاملة تكبر وتنضج في هذه الظروف، أصبح حصار غزّة، وعمره يقترب من العشرين عاماً، أطول مدّةً من حصار العراق. لماذا يمكن أن يقبل أيّ عاقلٍ بالتطبيع مع هذه الوضعية لشعبه؟ كيف يقرّرون أن أولادنا يستحقّون أن يكبروا ويعيشوا بهذه الطريقة؟
ما أريد الوصول إليه هو أنّ أوروبا كانت تاريخياً سيئة للغاية مع الفلسطينيين. وهم بدلاً من أن يشعروا بالذنب بسبب دورهم في فلسطين، يحاضرون فيهم بثقة النرجسي. عدا دور الأوروبيين في قيام دولة إسرائيل، ودعمها وتسليحها وتزويدها بتقنيات السلاح النووي، هم كذبوا في ما بعد على الفلسطينيين حين دفعوهم – بضمانتهم – إلى الدخول في عملية سلام، تبيّن أنها خديعة، وأنّ إسرائيل ستستخدمها لسلبهم ما تبقّى من حقوقهم فيما هم «يجرجرونهم» في المفاوضات (وهو ما قاله صراحةً أكثر من قائدٍ إسرائيلي). بعد كلّ هذا التاريخ يصبح هناك شيء ثقيل في أن تشرف أوروبا، للمرة الثالثة خلال أقلّ من قرن، على التطهير العرقي للشعب الفلسطيني.
بعد اليوم، الخيارات ستصبح بطبيعتها أكثر «جذريّة»، والمنطقة الرماديّة ستضيق. لا أحد سينجو والدّور يقترب من الجميع. بعد أن يستفيق الإسرائيليون من الصفعة، فإنّ الدّرس الذي سيتعلّمونه ممّا جرى هو أن يكونوا أكثر عدائيةً معنا وأن لا يسمحوا لتهديدٍ آخر بالنموّ في خاصرتهم. إن كانوا قد خسروا، في يومٍ واحد، عدداً من الجنود يفوق بأضعافٍ ما خسروه طوال حرب تمّوز 2006، فالحساب الصهيوني، من غير شكّ، سيكون أنه من الأفضل أن يُقتل جنوده في حربٍ هجوميّةٍ ضدّ الأعداء، ولا يسمحوا لهم بالدخول عليهم مجدّداً. المجزرة قائمة ولكنّ الحرب الحقيقيّة لم تبدأ بعد. نحن ما زلنا في البداية وكلّ ما نعرفه عن إسرائيل «القديمة» وقواعد النار على الجبهات قد تغيّر، والأيّام القادمة هي أيّام سلاح.
خاتمة
فيما كانت الاشتباكات تدور على جبهة الجنوب، وصواريخ المقاومة تصطاد ما تشاء من أهداف، وتتحكّم في اختيار مستوى الأذى الذي تلحقه بالجيش الإسرائيلي، فكّرت في المسافة التي قطعناها منذ الثمانينيات وما قبلها. وحين كانت أسماء المواقع الإسرائيلية وقرانا الحدودية تُذاع، تذكّرت المرّة الأخيرة التي رأيت فيها تلك الأماكن. اتّصل بي فجأة إبراهيم الأمين طالباً منّي أن أتحضّر في الصباح الباكر للذهاب في جولة. كان يوماً لم يخلُ من الغرابة، كأن تدخل السيارة فتجد رجلاً جالساً في الخلف بصمتٍ يحمل كاميرا يوجّهها إليك، ويصوّرك طوال اليوم ولا يقول كلمةً واحدة. وكل الأمور في حياتي، مذّ دخلت «الأخبار»، أصبحت مجبولةً بقدرٍ من الغرابة (the bizarre). المهمّ، تعرّفت يومها إلى تلك المواقع، وإلى الناس الذين يحفظون اسم كلّ وحدةٍ للعدوّ على الجانب الآخر، ومسار كلّ سيارة، وموقع كلّ جهازٍ للمراقبة.
مسؤولٌ في لعبة التضليل القائمة مع الاحتلال، يتحدّث عن إجراءات العدوّ كمن يواجه مشكلة شخصيّة عويصة لا بدّ من حلّها، يهزّ رأسه بعصبيّة «لديهم الكثير من التكنولوجيا، الكثير». الأكمة التي تخفي مربضاً خلفه بابٌ خلفه نفق. المبنى «العادي» الذي تدخله، فتجد قاعةً مرصوفة بشاشاتٍ تعرض كلّ ما يجري على الجانب الآخر من الحدود.
ورجالٌ وشباب ما إن يخرجون عن طور العمل حتّى يجلسوا بمرحٍ ويبدأوا برواية القصص من حياتهم المثيرة، عن أيّام المقاومة في التسعينيات أو عن علاقتهم بالحاج رضوان؛ ثم يتضاحكون وهم يطلبون من أحدهم أن يروي ما حصل معه وهو يحاول العبور بالزورق إلى اليمن. هم أيضاً أطعمونا، تناولنا معهم الفطور في مركزٍ قرب الحدود، والغداء في مكانٍ ليس بعيداً عن مدينة صور. الفطور – جلسنا على حصيرٍ بسبب طبيعة المكان – كان لبنانياً تقليدياً متنوّعاً، مع خبز مرقوق طازج، والغداء أيضاً كان مصنوعاً في منزل، وكان هذا أشهى طعامٍ أكلته في حياتي.