قصيرةٌ هي المسافةُ بينَ العاصمةِ السُّوريّةِ دمشقَ وشقيقتِها عمّان عاصمةِ المملكةِ الأردنيّةِ الهاشميّة، بل إنّها أقربُ، رُبّما، من المسافةِ الفاصلةِ بينَ عاصمةِ الياسَمِينِ وبعضِ المُحافظاتِ السُّوريّة، كما أنّ العاداتِ والتقاليدَ بينَ الأشِقّاءِ في الدَّولتَينِ تتقاطَعُ إلى درجةٍ تحسبُ نَفْسَكَ فيها أنّكَ لا تزالُ في بلدِكَ وبينَ أهلِك.
كيفَ لا، والعائلةُ هي العائلةُ، والعاداتُ والتقاليدُ عَيْنُها بينَ كثيرٍ من المُحافظاتِ السُّوريّةِ وشقيقاتِها مِنَ المُحافظاتِ الأردنيّةِ في الشّمالِ والجنوب، في الشَّرقِ والغرب؟! ولولا تلكَ الحُدودُ المُصْطَنَعةُ لَمَا اسْتَطَعْنا التَّمْييزَ بينَ العواصمِ العربيّةِ، ولا سيّما تلكَ المُتقارِبَةُ جغرافيّاً والمُتداخِلَةُ عائليّاً واجتماعيّاً.
ما إنِ اجتزتُ الحُدودَ السُّوريّةَ، حتّى كانتِ اتّصالاتُ الأخِ والصَّديقِ الحبيبِ معالي وزيرِ الثّقافةِ الأردُنيِّ الأسبق سمير حباشنة تُلاحقُني لتسهيلِ عُبوري الحُدودَ الأردنيّةَ وتقديمِ المُساعدةِ اللازمةِ لاجتيازِ الحُدودِ، بعيداً عنِ الازْدِحامِ الكبيرِ فيها، وما كدتُ أصلُ إلى العاصمةِ الأردنيّةِ عمّانَ حتّى كانتِ السّيّارةُ في انتظاري للانطلاقِ إلى مَقرِّ الجمعيّةِ الأردنيّةِ للثقافة والعلوم، التي يَرْأَسُها ويُشْرِفُ عليها الأستاذُ سمير حباشنة، حيثُ شاركتُ في ندوةٍ إلى جانبِ الدكتور أحمد المسلماني، رئيسِ اتّحادِ الكُتّابِ في آسيا وإفريقية وأميركا اللاتينيّة، والدكتور عليّ الفواز، رئيسِ اتّحادِ الكُتّابِ في العراق، والدّيبلوماسيِّ والباحثِ السُّودانيِّ الصّادق الفقيه، الأمينِ العامِّ لمُنتدى الفِكْرِ العربيِّ في عمّانَ، بحُضورِ ثُلّةٍ من الباحثينَ والأُدباءِ في المملكة.
تحدّثَ معالي الدكتور سمير حباشنة عن سورية بما يليقُ بها تاريخاً وحضارةً وأصالةً ومُقاوَمةً، وهو الكلامُ الذي حضرَ بقُوّةٍ في أكثرَ من جلسةٍ من الجَلَساتِ الحواريّةِ واللقاءاتِ التي عُقِدَتْ في أثناءِ الزيارة، وهي الجلساتُ المُخصَّصةُ للحديثِ عن الإشكاليّاتِ الراهنةِ للمشهدِ الفكريِّ العربيِّ، ودَوْرِ الهيئاتِ الثقافيّةِ العربيّةِ في مُواجَهةِ التّحديّاتِ الراهنةِ وتوحيدِ الخِطابِ الثقافيِّ لتَجاوُزِ المُشكلاتِ وبناءِ مُجتمعٍ قويٍّ وقادرٍ على مُواجهةِ التَّهْديداتِ والتَّحدّيات، وهو ما أُكِّـدَ في لقاءِ سُموِّ الأميرِ الحسنِ بنِ طلال المَدْعُوّينَ مِنْ رُؤساءِ اتّحاداتِ الكُتّابِ في الدُّوَلِ العربيّة، إلى جانبِ عددٍ من الباحثينَ والأكاديميّينَ والدّيبلوماسيّينَ والمُثقّفينَ في المملكة.
ولم يكُنْ غريباً حديثُ الأميرِ عن ضرورةِ اسْتِشْعارِ الأخطارِ المُحْدِقَةِ بالدُّوَلِ العربيّةِ في أثناءِ عَرْضِهِ خرائطَ أجنبيّةً تُؤكِّدُ رغبةَ المُستعمِرِ في تقسيمِ المُقسَّمِ وتفتيتِهِ، اعتماداً على أدواتٍ لا علاقةَ لها بالوطنيّةِ والانتماء، مُؤكّداً العملَ لبناءِ الكرامةِ الفكريّةِ وتعزيزِ الأمْنِ الثقافيِّ العربيِّ، وتحقيقِ النُّهوضِ الفكريّ، وضرورة الحفاظِ والدِّفاعِ عن التُّراثِ الثقافيِّ والدِّينيِّ في فلسطينَ عُموماً، وغزّةَ خصوصاً في ظلِّ حربِ الإبادةِ والتدميرِ التي تتعرّضُ لها.
ولمّا كانتِ السّياسةُ تتكامَلُ معَ الثقافة، كانَ لا بُدَّ منْ تأكيدِ أنَّ المشروعَ السّياسيَّ الوطنيَّ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى حوامِلَ ثقافيّةٍ، ومِنْ ثَمَّ فالسّياسيُّ الجيّدُ هوَ المُثقّفُ الجيّد، ولا بُدَّ من الاشتغالِ على سُؤالِ الوعيِ والابتعادِ عن الثَّرْثَرَةِ، والعملِ على وَضْعِ حدٍّ لتَعدُّدِ الحِرْمانِ في دُوَلِنا العربيّة، وهو الحِرْمانُ الذي ينعكسُ سَلْباً على المُواطنِ العربيِّ، ويَخدُمُ العَدُوَّ في تنفيذِ مُخطَّطاتِهِ والسَّيرِ بها وَفْقَ الخطّةِ المرسومةِ لها بمُساعدةٍ من أبناءِ البُلدانِ المُستهدَفَة.
ولمّا كانتِ التّحدّياتُ التي تُواجهُنا جميعاً كبيرةً، كانَ لا بُدَّ من صُنعِ السّياساتِ المَبْنِيّةِ على الأدِلّةِ وتعزيزِ الفكرِ النقديِّ التحليليِّ وفتحِ الحوار المسؤولِ “الذي لا يُذْهِبُ للمَوْضُوعِيَّةِ قَضِيَّةً”، ومِنْ ثَـمَّ لا بُدَّ من معرفةِ أينَ نقفُ الآنَ؟ وما الذي يجبُ علينا أن نسعى للوصولِ إليه وتحقيقهِ في المفاهيمِ والقِيَمِ والمنظوماتِ المعرفيّة، وفي كيفيّةِ الاستجابةِ إلى التّحدّياتِ، وتحويلِها إلى فُرَص؟ وهل الواجبُ على المُؤسّساتِ الثَّقافيّةِ والقائمينَ عليها السَّعْيُ إلى الإضافةِ إلى الفِكْرِ أم مُراجَعَتِه؟!
نعم، لقد كانَ الحوارُ جادّاً ومسؤولاً في الجَلَساتِ التي دعا إليها مُنتدى الفكرِ العربيّ وأدارَها أمينُهُ العامُّ الدكتور الصادق الفقيه، فقد اتُّفِقَ على مُواصلةِ العملِ والجهودِ للوُصولِ إلى خطابٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ جامعٍ ومُشترَكٍ وقادرٍ على مُواجَهةِ التّحدّياتِ التي تُواجِهُ الأمّةَ، وهو ما أُكِّـدَ في اللقاءِ الذي أقامَهُ المُنتدى بالتَّعاوُنِ معَ جمعيّةِ الشُّؤونِ الدّوليّة، الذي خُصِّصَ للحديثِ عن مخاطرِ الليبراليّةِ الجديدةِ على الأخلاقِ وثقافةِ الانتماء، بحُضورِ مجموعةٍ منَ السّياسيّينَ والمُثقّفينَ البارزينَ يتقدَّمُهُمْ رئيسُ الوزراءِ الأردنيُّ الأسبقُ السيّدُ عبدُ الرؤوف الروابدة، واللواءُ السّفيرُ الدكتور محمود الخزاعلة، والأستاذُ فاضل السّرحان الأمينُ العامُّ لجمعيّةِ الشُّؤون الدوليّة.
إنّها جَلَساتُ الانتماءِ والحِرْصِ على ثقافةٍ تجمعُ، ولا تُفرِّقُ، ثقافةٍ مِنْ شأنِها أن تجعلَنا قادرينَ على التَّمسُّكِ بخطِّ المُقاوَمةِ والثَّباتِ على الموقفِ في وجهِ ما نتعرّضُ له، وهذا لا يتحقّقُ إلّا بالوعيِ وبناءِ الإنسانِ وإعلاءِ البناءِ الفكريِّ والثقافيِّ عربيّاً، ومُحارَبةِ الهُبوطِ والتَّدنِّي الثقافيِّ والتّصدّي لمُحاولاتِ اختطافِ الثقافةِ والفكرِ العربيّ.
كانَ الوجعُ الفلسطينيُّ حاضراً بقُوّةٍ في لقاءاتِ عمّانَ الثقافيّةِ وجَلَساتِها الحواريّة، كما كانَ تأكيدُ إثباتِ الحقِّ الفلسطينيِّ في مُواجَهةِ السَّرْديّةِ الصهيونيّةِ الزائفةِ هُوَ الأكثرَ حضوراً، وذلكَ بالحديثِ عن تعزيزِ ديبلوماسيّةِ طَرْقِ الأبوابِ والتّواصُلِ معَ داعِمي قضيّةِ فلسطينَ وغيرِها من القضايا العربيّةِ العادلةِ في الغرب، وتأكيدِ دورِ المُثقّفِ في صِناعَةِ المُستقْبَلِ وحِراسَةِ الحُلُم.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة