قلة من اللبنانيين انتبهوا قبل ايام الى وفاة شخصية اقترنت باسم بلادهم اقل من عقد من الزمن، تركت بصمات في احداثها وتاريخها ورجالاتها. توفي عبد الحميد السراج في القاهرة التي اقام فيها منذ عام 1962 بلا انقطاع بعدما منحه الرئيس جمال عبد الناصر الجنسية ومنصباً مهماً في الخارجية المصرية وضع بين يديه لسنوات اخرى ملفي لبنان وسوريا معاً. عن 88 عاماً توفي السراج الأحد (22 ايلول)، وكان ظنّ كثيرون انه مات قبل ذلك بوقت طويل، بعدما اقام في عزلة وانقطع عن تاريخه. رفض استقبال صحافيين وباحثين واعتاد، على غرار طباعه، اقفال السماعة بفجاجة رافضاً التحدث الى اي احد.
في السنوات الاخيرة اكتفى بزيارات عائلية في القاهرة لدى افراد من عائلته واقارب. بعد انقضاء الناصرية عام 1970 ذهب الى الظل، ولم يعد يريد مذ ذاك تذكر اي حدث شارك في صنعه.
جيء على ذكر وفاته ببضعة اسطر في صحف وجرائد عربية قليلة. قد لا يكون ابناء الثمانينيات والتسعينيات والعقد الاول من الالفية الثالثة، من اللبنانيين، سمعوا بهذا الاسم. لكن اجيال آبائهم حفظت الأب الأول لمراحل اولئك الذين وُصفوا بأنهم حكموا لبنان من بلادهم كعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، ومن داخل لبنان كغازي كنعان ورستم غزالة. قبل السراج كان الحاكم الفرنسي، ممثل المفوض السامي في حقبة الانتداب، هو الوصي على الطبقة السياسية في لبنان وسوريا، كل على حدة. منذ منتصف الخمسينيات برز السراج حتى عام 1958 عندما قاسم وتوأمه في المهمة عبد الحميد غالب النفوذ على لبنان. الاول من مكتبه في دمشق، والثاني من مقر السفارة المصرية في فردان.
عندما يتذكر اللبنانيون قصة السراج مع لبنان وحقبته، ينتبهون الى ذكاء خلفائه الذين اتقنوا حفظ ما سمعوه عن الأب الأول الذي زاوج بين السياسة والأمن. ليس للأمن ان يكتفي بمراقبة السياسيين والسهر عليهم فحسب، بل ايضاً ان يعاقبهم وينتقم منهم. في ذروة قوة الرجل، قيل ان عبد الناصر كان يحكم نصف لبنان بفضل دوره وتغلغله في هذا البلد، ومقدرته على ترويع سياسييه وتخويفهم والتلاعب على تناقضاتهم.
ظهر الدور المباشر للسراج في لبنان في عدم استقرار العلاقات اللبنانية ـــ السورية منذ النصف الثاني من عهد الرئيس كميل شمعون، وارتبط الى حد كبير بعدم استقرار سوريا بعدما شهدت في السنوات السابقة انقلابات عسكرية عدة تولدت منها ازمات سياسية، حالت دون نجاحها في ترسيخ اجهزة الاستخبارات فيها التي اصبحت بدورها اسيرة الفوضى السياسية. استمرت حينذاك وظائف الاستخبارات الثلاث، المخابرات العامة والمخابرات العسكرية والامن السياسي، في جهاز واحد كان يديره السراج منذ تسلم رئاسة الشعبة الثانية السورية في شباط 1955.
بعدما كان مرافقاً لحسني الزعيم وهو برتبة ملازم اول في الشرطة العسكرية، وَالى اديب الشيشكلي وكان في عداد رجال انقلابه ثم في حقبة حكمه، ثم والى من بعده خلفه شكري القوتلي العائد الى السلطة بقوة الجيش. اتى الى الشعبة الثانية من الشعبة الاولى بعد دورة اركان عسكرية في فرنسا لسنة من حزيران 1952 الى حزيران 1953، واصبح الرجل القوي في الاستخبارات السورية. لم يحظَ اي من اسلافه في رئاسة الشعبة الثانية بنفوذه منذ المقدم ابراهيم الحسيني حتى انقلاب 1949، ثم المقدم بديع بشور في حقبة حسني الزعيم، فالنقيب محمود الرفاعي في حقبة انقلاب سامي الحناوي، ثم اديب الشيشكلي، فالنقيب مصطفى رام حمداني مع عودة القوتلي الى الحكم عام 1954. السنة التالية ترأسها السراج وكان برتبة مقدم رفع الى عقيد عام 1958، الى ان انتهى به المطاف وزيراً للداخلية في جمهورية الوحدة عام 1958، ثم نائباً لرئيس الجمهورية العربية المتحدة في 15 آب 1961 ما لبث ان اكتشف انه اضحى بلا صلاحيات كان قد استأثر بها عبد الحكيم عامر. في 15 ايلول 1961 استقال، اياماً قليلة قبل الانفصال في 28 ايلول.
على نقيض من غالب، كان تصرّف السراج صلفاً ومتوحشاً. ذو مزاج حاد ومتطرف. نزق وفج من دون تخليه عن الشجاعة. يأمر بتسلط، ويغالي في الخوض في التفاصيل، مضيفاً الى اسلوب عمله التخويف والترهيب والهيبة. لا قعر لغضبه وردود فعله. بحكم مهنته ومراسه الطويل في الاستخبارات العسكرية، بات سرّه في ما يضمر لا في ما يفصح ويكشف. متعطش للسلطة والتعسف، وفي الوقت نفسه يريد أن يعرف كل ما يدور من حوله.
لغزه المعلومات التي لم يكن يريدها أن تنضب عن كل الناس، وأولهم القريبون منه والمحيطون بعمله. على قدم المساواة كان يجمع المعلومات عن خصومه وأعدائه وعن مؤيديه والمتملقين له، وكذلك عن معاونيه. يراقبهم ويتنصت عليهم. بسبب ذلك جعل الهيبة ـــ التي كان يستمدّها من القوة والتخويف احياناً ـــ والمعلومات في منزلة واحدة. انهما قاعدتا الاستخبارات العسكرية. ما صحّ فعله على مواطنيه السوريين، فعله ايضاً مع سياسيين لبنانيين، وبينهم زعماء، ترددوا عليه واستمدوا منه تأثيراً، الى السلاح والمال، في حملتهم على شمعون في السنوات الثلاث من ولايته، وخصوصاً ابان «ثورة 1958».
لم يحل وفاؤه لعبد الناصر وولاؤه للجمهورية العربية المتحدة ـــ وعقيدة الوحدة خصوصاً ـــ دون معاملته لبنان انطلاقاً من حجج سورية بحتة. لم تُفضِ سلسلة المآخذ التي حملها ضباط الشعبة الثانية والوزراء اللبنانيون الى الزعيم المصري، او الى سفيره في بيروت، إلى ضبط عنف الرجل. لم يكن الرئيس المصري يعتقد أن السراج يخطئ في كل تصرفاته، وعزا بعض اخطائه إلى معاونيه المحيطين به. كَمَن اخلاصه في رعونته وهو يلتزم السياسة الناصرية ويطبقها على طريقته، متعلقاً في الوقت نفسه حيال لبنان بمشاعره كسوري يرفض الاعتراف بالكيان الصغير المجاور، ولا يكفّ عن التدخل في شؤونه دونما تسلحه بذريعة. لم يكن يعوّض سلخ لبنان عن سوريا ـــ كما نظرت الانقلابات العسكرية المتعاقبة في هذا البلد ـــ الا تجريده نهائياً من استقراره وتعريضه باستمرار لأزمات تفتت كيانه تدريجاً. قدّر جمال عبد الناصر دائماً دور السراج في سوريا ولبنان، وعدّه بلا تردّد رجلاً مستقيماً.
منذ النصف الثاني من عام 1957، بثّ السراج ورجال الشعبة الثانية السورية الفوضى في لبنان بتهريب السلاح عبر الحدود الى معارضي شمعون بغية مساعدتهم على تقويض عهده، وإحداث قلاقل واعمال تفجير ومحاولات تسلل عبر الحدود، وافتعال اشتباكات مع الجيش اللبناني، فضلاً عن ملاحقة المعارضين السوريين لاعتقالهم او اغتيالهم لسنوات خلت، ثم في السنوات التالية كذلك، معولاً على مساعده القوي برهان أدهم. إثر الانفصال عام 1961 اعتقله قادته وزجّوا به في السجن، حتى واجه الرئيس فؤاد شهاب امتحاناً لم يسعه التردد حياله، وهو في اوج تحالفه مع عبد الناصر الذي أبرم وإياه تفاهماً رافق الحقبة الشهابية: عدم التدخل في الشؤون اللبنانية في مقابل دعم السياسة الخارجية للجمهورية العربية المتحدة.
حضر الى بيروت فجأة موفد شخصي لعبد الناصر هو مدير مكتبه سامي شرف، حاملاً طلباً مهماً يعدّه الرئيس المصري ذا بعد قومي، ويأمل استجابته، هو المساعدة على إطلاق السراج من سجنه في دمشق. في المقابل، تعهد الزعيم المصري لنظيره سرية المهمة، وتطمينه لبنان الى وقوفه الى جانبه في حال تعرضه لضغوط ومضايقات سورية من جراء المهمة تلك. عقد شرف اجتماعات مع غالب ورجال استخبارات السفارة في بيروت ورئيس الشعبة الثانية اللبنانية انطون سعد، انتهت الى الاتفاق على تنظيم الشق اللبناني من مهمة امنية حساسة تقضي بتهريب السراج من السجن، وضمان انتقاله الى الاراضي اللبنانية.
ليل 18 ا يار 1962 نفذت خطة الفرار بمساعدة جندي سوري ناصري كان قد جنّده السراج سابقاً مخبراً لديه، هو منصور الرواشدة. تواطأ مع الاستخبارات المصرية، فأوصل السرّاج إلى دير العشائر عبر جرود وعرة تتداخل فيها الحدود اللبنانية ـــ السورية في بلدة حلوة البقاعية. ليلتذاك استعين بجِمال لتسهيل اجتياز السراج الحدود حتى دخل الأراضي اللبنانية. بات ليلته في راشيا في منزل شبلي العريان الذي نقله صباحاً الى حماية كمال جنبلاط في قصر المختارة، قبل تسليمه إلى الشعبة الثانية التي تولت نقله إلى منزل مسؤول الاستخبارات المصرية في السفارة محمد نسيم في الروشة، ومنه إلى مطار بيروت في سيارة جيب عسكرية قادها رئيس الفرع الداخلي في الشعبة الثانية النقيب سامي الخطيب وإلى جانبه سامي شرف، وفي المقاعد الخلفية السراج والرواشدة ومحمد المصري أحد معاوني شرف في مكتب رئيس الجمهورية. ارتدوا بزّات عسكرية لبنانية، ودخلوا المطار من ثغرة أحدثتها الشعبة الثانية في سوره الخارجي الى طائرة خاصة كانت تنتظرهم لتقلّهم الى القاهرة. عند باب الطائرة، كان امين رئاسة الجمهورية المصرية عبد المجيد فريد متنكراً في ثياب مضيف في انتظار السراج.
اعتاد مطار بيروت منذ عام 1956، في الأولى فجر كل يوم، استقبال طائرة مصرية خاصة تأتي لتحمل إلى «الريّس» صحفاً ومجلات لبنانية كان قد بلغ عددها 102 مطبوعة يثابر على قراءتها. ذلك اليوم، وبناءً على اوامر الاستخبارات العسكرية اللبنانية والمصرية، تذرّع قائد الطائرة بعطل طارئ عليها لتأخير إقلاعها بعض الوقت، إلى ان وصلت سيارة الجيب العسكرية.
غداة تهريبه، أعلن في بيروت في بيان مقتضب أن السراج سافر إلى القاهرة من طريق السفارة في بيروت بعد وصوله الى لبنان بشكل عادي عبر الحدود مع سوريا.
قدّر عبد الناصر لشهاب مساعدته له على انقاذ رجله القوي في سوريا، وظلّ لسنوات يأتي على ذكر هذه الحادثة بامتنان، ويستجيب لكل ما كان يطلبه منه الرئيس اللبناني.