كتب

هل كان آرثر رامبو أبا لإيزابيل إيبرهاردت؟

محمد الحمامصي

الكاتب الجزائري والقاص والمترجم والباحث في الأدب الكولونيالي بوداود عمير يقدم في مختاراته القصصية ‘ياسمينة وقصص أخرى’ رؤية متكاملة لحياة وأدب اديبة المعية رغم صغر سنها، نسبيا، وقصر تجربتها.

 

رغم صغر سنها، نسبيا، وقصر تجربتها الأدبية، فقد تميز أدب إيزابيل إيبرهاردت، إلى جانب التنوع في استخدام شتى وسائل العمل الإبداعي: من رواية، وقصة، ومقالة صحافية، مرورا بأدب الرحلات الذي كانت تجيد تقنياته بحكم معرفتها للغة الأهالي، وعاداتهم وتقاليدهم، ودقة الوصف في قراءة المعالم وتشخيص الأحداث، وكانت تتمتع ـ فضلا عن ذلك ـ بزاد معرفي كبير، أثرت به كتاباتها، ويتجسد ذلك فيما نعثر عليه من روائع الحكمة، والفلسفة والتصوف داخل نصوصها، بما يؤلف ستة مجلدات؛ أي أنها كانت نشيطة كتابيا، بما أنها لم تعرف غير سبع سنوات في مجال الكتاب.

يقدم الكاتب الجزائري والقاص والمترجم والباحث في الأدب الكولونيالي بوداود عمير في تقديمه للمختارات القصصية “ياسمينة وقصص أخرى” رؤية متكاملة لحياة وأدب إيزابيل إيبرهاردت، وأبرز ما كتب عنها من دراسات وروايات والأفلام التي تناولت حياتها، كما يتوقف عند مواقفها من الشعب الجزائري، في تلك الفترة العصيبة من تاريخه، ومواقفها التي استماتت من أجل الثبات عليها، دفاعاً عن الجزائريين وقضاياهم. وهو ينطلق من ولادتها في 17 فبراير/شباط 1877م، في فيلا “فندت” الواقعة في حي الكهوف في جنيف، المدينة السويسرية المعروفة، وهو الحي الذي لا يزال إلى الآن يحمل اسمها. ويقول إيبرهاردت هو الاسم العائلي لوالدة أمها ناتالي ديماردير وهي ألمانية من عائلة أرستقراطية، أما عن أبيها فقد تبادين بخصوصه كتاب سيرتها: بين أن يكون مجهول الهوية، وأن يكون تروفيموسكي، المعروف باسم فافا وهو من أصول أرمينية، كان قسا سابقا للكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، أو ربما يكون “آرثر رامبو” الشاعر الفرنسي المعروف (1854 ـ 1891م).

ويضيف أن نسبتها للشاعر آرثر رامبو تبنته الكاتبة الفرنسية فرانسواز دوبون في كتابها “تاج الرمال” الصادر عام 1967م، حيث تعتقد أن أبا إيزابيل هو الشاعر الفرنسي الشهير، وتورد في هذا السياق جملة من الدلائل التي تثبت اعتقادها، فهناك ـ مثلا ـ التشابه الكبير في ملامح وجهيهما، أضف إلى ذلك أن اسم إيزابيل هو نفسه اسم شقيقة رامبو، وهي الأخت المفضلة لديه، وكان متعلقا بها بشكل لا يوصف، وكذلك الجملة الواردة في أحد كتبها: “أنا أيضا سأموت مسلمة مثل أبي”، إذ يقال إن رامبو بعد رحلة ضياعه في وادي النيل يمكن أن يكون قد اعتنق الإسلام. وهو ما يذهب إليه ـ أيضا ـ بيار أرنو واضع سيرة “الشاعر الملعون” الذي يقوم تفسيره على أن رامبو يكون قد اجتاز جبال الألب في سنة 1877م، وحل في سويسرا لفترة من الوقت قبل أن يلتحق بجيش ملكة هولندا، أما أم “إيزابيل”، الأرملة الطروب، فكانت تعيش وقتها قرب بحيرة ليمان.

ويلفت عمير إلى أنه قد جرت مقارنة بين صورتين فوتوغرافيتين لهما (إيزابيل ورامبو)، بحيث تمكن من العثور ـ بحسبه ـ على أوجه شبه كبير في هيئتي رامبو وابنته المفترضة، كما يشفع ارنو اعتقاده هذا بأن إيزابيل تحمل اسم الأخت المفضلة لرامبو، وهو ما ذهبت إليه ـ أيضا ـ الكاتبة الفرنسية ف.دوبون في كتابها “تاج الرمال”، كما أسلف الذكر. في حين أن كل الدلائل تشير إلى أن أباها هو الروسي ألكسندر تروفيموفسكي الذي كان وصيا عليها ومعلمها، وقيل إنه قد تبناها وأعطاها اسمه، وحظيت لديه برعاية خاصة لم يحظ بها أولاده الشرعيون، وهو ما تذهب إليه ـ أيضا ـ الكاتبة الفرنسية صاحبة جائزة غونكور الفرنسية “إدموند شارل رو”، وهي التي كرست جزءا مهما من حياتها في أعمال البحث والتنقيب عن إيزابيل إيبرهاردت، وهو جهد كلفها أكثر من اثنتي عشرة عاما، عملا فكريا، وما يعادل حجم ألف صفحة، ولم يقتصر الأمر لديها على مستوى البحث أو الأدب، بل تعداه إلى الجانب الفني، حيث أعدت سيناريو فيلم عن حياة إيزابيل، كان مفترضا أن يتولى إخراجه المخرج المعروف “محمد الأخضر حامينة”، العمل ـ للأسف ـ لم يتم على يد المخرج الجزائري”.

ويرى عمير أن الباحث محمد رشد كان له الفضل في نفض الكثير من الغبار عن أرشيف إيزابيل في فرنسا؛ إذ يعد أحد الباحثين القلائل الذين أنصفوها، فإنه يشكك في صحة الاعتقاد القائل أنها ابنة تروفيموفسكي إذ يقول “حسب وثيقة ميلادها، وإلى أن يثبت العكس، فهي فتاة طبيعية، أما احتمال أن يكون تروفيموفسكي أبا لها، فما ذلك سوى فرضية غير مؤسسة، ذلك أن هذا الأخير كان في أثناء رحلة إلى روسيا، في فترة والدة الطفلة، منهمكا في تسلم الفوائد من إرث زوج الأم، وهو جنرال روسي توفي 1873م، حيث إنه لا يمكن للزوجة الاستفادة إلا من الفوائد.. أضف إلى ذلك أن “إيزابيل” لم تشر أبدا في معرض كتاباتها إلى أن تروفيموفسكي كان أبا لها، كانت تصفه تارة بأنه عمها الأكبر وتارة أخرى تصفه بالوصي، وهذا لا يمنع من أنه كان رجلا مثقفا يحمل أفكارا عدمية.. كان مسؤولا بالتأكيد عن بناء الشخصية الخارقة والغريبة الأطوار لـ “إيزابيل”.

 

ويضيف “على كل، يبقى أن تروفيموسكي، سواء أكان والدها أم لم يكن، قد قام بتوجيهها وتربيتها طيلة الفترة التي عاشتها في جنيف التي أقامت فيها صحبة عائلتها، إلى جانب أمها وأبيها المفترض، ورفقة أخوتها من أمها: نيكول، أوغستين، ناتاليا وفولوديا. وقد تميز الحي الذي نشأت فيه، وترعرعت، بأنه كان فضاء رحبا لمختلف الأجناس والأعراق، تتلاقح فيه الثقافات، وتلتقي فيه الأفكار من كل بقاع العالم، أو تكاد، فقد كانت اللغات المتداولة هي: الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، وحتى العربية، وهو ما انعكس، بشكل إيجابي، على ميولها الفكرية والأدبية التي تبلوَرت بصورة جلية في كتاباتها ورحالتها. في مايو/حزيران 1897، وقد بلغت العشرين من العمر، التحقت مع أمها بعنابة (بونة سابقا)، وهناك كانت تلتقي بأهالي المدينة، وتتردد على أوساطهم، تلتمس التعرف بهم، وبعاداتهم وتقاليدهم، وتحرص على تعلم اللغة العربية والتعرف إلى الدين الإسلامي. ولأنها كانت تتميز بسرعة البديهة، وبالموهبة، فقد استطاعت أن تقطع أشواطا هامة في تعلم اللغة العربية، ويعتقد عدد من الباحثين أنها اعتنقت وأمها الدين الإسلامي في عنابة، وهي المدينة نفسها التي توفيت فيها أم إيزابيل، ودفنت في مقبرة المسلمين هناك. وسرعان ما عادت أدراجها إلى جنيف لتسوية بعض الشؤون العائلية، ولكن الحنين راودها، من جديد، للعودة إلى الجزائر، لا سيما بعد فقدانها لأمها التي كانت سندها الوحيد. قرار العودة إلى الجزائر كان منعطفا حاسما في حياتها بعد أن استوطنها الفراغ. أرادت أن تجسد تصورها للحياة ونظرتها المتشائمة، في بداية المطاف، من خالل ما عاشته، في فترة صباها، في جنيف، من معاناة واضطراب، ولحظات السعادة أو الشقاء: فرار بعض أخوتها من البيت العائلي، وعلاقتها مع فافا وما تعلمته على يديه، فقد علمها كيف تواجه صعوبات الحياة وتقلباتها، ولولا الذي تعلمته منه ما تمكنت من اختراق فيافي الصحراء، ولا عاشت حياة البساطة في الجزائر وتونس، نافضة جميع ألوان البهرجة وأجواء الأرستقراطية التي عاشت في كنفها، فقد أوعز لها أن تتصرف كرجل، بل أن ترتدي ملابس رجال، ليس، فقط، في منزلها، ولكن عندما توجد بين الناس، فقد تعلمت أنها يمكن أن تتصرف بحرية أكثر كلما ارتدت ملابس الصبية والرجال في طفولتها، كما قام بشراء حصان لها، وراح يعلمها كيف تمتطيه وقد استفادت تماما من رياضة الفروسية التي تعلمتها، وهي تخترق رمال الصحراء، فيما بعد، وهو الذي علمها قراءة اللغة العربية الفصحى وكتابتها. والغريب أنه لم يكن يسمح لـإيزابيل بأن تتصل بالسويسريين الذين كانوا يعيشون فيما بينهم، كما كان يزدري، ازدراء ملحوظا، أبناء الطبقة الراقية التي كان ينتمي إليها.

ويلفت عمير إلى أن نظرة إيزابيل للحياة تبدو ـ للوهلة الأولى- بسيطة، ولكنها، في الواقع، عميقة المعنى، فقد كانت تشعر، وهي في مقتبل العمر، بأن الأرض موجودة، تحدوها الرغبة في اكتشاف أقاصيها: “لم أكن مهيأة أبدا لأن أدور في لعبة الخيول الخشبية، بكمامات حريرية للعيون، لم أضع مثالا لحياتي، بل مضيت طلبا للاكتشاف، أعرف جيدا أن طريقة الحياة هذه محفوفة بالمخاطر، غير أن لحظة الخطر هي عينها لحظة الرجاء.. على أية حال، أنا شديدة القناعة بأن الواحد منا لا يسقط خارج حدود نفسه، حين يتألم قلبي أشعر بأنه موجود، كم تساءلت مرات عديدة فوق دروب الترحال: إلى أين أمضي؟، وقد توصلت إلى قناعة، بين هؤلاء الناس وعند البدو، بأنني كنت أرجع إلى ينابيع الحياة، وأحقق سفرا في أعماق الإنسانية”، وهو المنحى الذي حقق لها على الأرجح شيئا من السعادة بعد طول يأس وشقاء: “…دائما في الطريق، وعبر الصحراء، أشعر بهدوء كبير يصعد إلى روحي، لا أتأسف على شيئ ولا أرغب في شيء، أنا سعيدة..”.

وعندما تزوجت، كما تقول الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، انطلقت إلى الصحراء بزي الرجال على ظهر جوادها، لم تشعر بعدم الاحترام تجاه ذاتها، من الصعب القول لماذا اختارت إيزابيل هذا الزي، قد يكون لأن ذلك راق لها، أو اعتمدته للدفاع عن نفسها، إن الزي النسائي، قياسا إلى الزي الرجالي، شيء مصطنع، لكن الأخير أكثر راحة، كانت مثل جورج صاند، ترتدي ملابس الرجال،.. وجورج صاند، واسمها الحقيقي آرماندين أورور لوسي دوبان، كاتبة فرنسية غزيرة الإنتاج (1876 ـ 1804م) تزيت بزي الرجال واتخذت لنفسها اسم رجل، وهي من أوائل الكاتبات اللواتي تحدين المجتمع الأرستقراطي: بعاداته وتقاليده، وقيمه وقوانينه، وقد كانت تصر على أن المرأة ند للرجل في الحرية والكتابة والإبداع، إن لم تتفوق عليه في كثير من المجالات، وقد عاشت على سجيتها كما يعيش الرجال عادة، متحدية العادات والتقاليد.

ويوضح أن معرفة إيزابيل باللغة العربية الفصحى واللهجات، وزواجها من واحد من الأهالي، إضافة إلى اعتناقها الإسلام، كل هذا دفع إيزابيل، ليس إلى تحقيق طموحها من خلال أسفارها، بوصفها صحافية وأديبة فحسب، بل تعدى ذلك إلى التعاطف مع العالم العربي. لقد عاشت تجربة منفردة في “الاندماج” مع العالم العربي والعالم الإسلامي، لكن دون التخلي، مطلقا، عن حرصها الشديد على تحقيق حرّيتها الشخصية: كانت تلك أداتها النهائية والعميقة الفعالية في أن تقف في حياتها، كما في كتاباتها، في وجه اللاتسامح السائد، وأن تقف معارضة للأطروحات التي تدعو إلى الخوف من العرب “عربفوبيا”، محملة المعمرين آنذاك مسؤولية العمل على تبني صورة جامدة، لا تقبل النقاش، في نظرتهم لثقافة “الآخر”..”لقد عثرت “إيزابيل” في الصحراء الجزائرية على وطنها المفقود، وفي الإسلام، على هويتها الضائعة.

يذكر أن مختارات عمير من قصص إيزابيل ضمت إلى جانب قصة “ياسمينة” قصص: الرائد، لمتورني، نوار اللوز، المنافسة، مجرم، وجميعها خاصة “ياسمينة” تنعكس عليها رحلاتها في الصحراء وما واجهته من قسوة، وتلقي الضوء على تجليات المكان وقسوته على المرأة، وقدرتها على مواجهتها في ظل مجتمع ذكوري يمعن في تكبيلها وإرغامها على حياة لا تقبلها أو ترغب فيها.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى