شرفات

وصيتي بعد الموت

عماد ندّاف

من الطبيعي أن يكتب كلٌ منّا وصيته، وهذا واجبٌ على كلّ من يتوقع أنه قطع شوطاً هاماً في الحياة، وأن الموت يقترب منه  نظراً لأسباب صحية أو لتقدمه في السن أو لظروف خارجية كالتي تجري في غزة أو في سورية أو غيرها من البلدان المشتعلة بالحروب.

ينبغي أن أصارحكم أن السبب الذي دعاني أنا إلى كتابة وصيتي هو كل تلك الأسباب إضافة إلى أن كثيرين يموتون من حولي ممن لا أتوقع موتهم وممن يعرفون ما ينبغي فعله من أجلي  بعد موتي..

والموت حق على كل منا، وقد انشغلت الملاحم القديمة في البحث عن الخلود ففشلت ، ولا فائدة ترجى من أي محاولة قادمة، ولا أحد تمكن من البقاء، وكما قال خليفة الرسول الكريم : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت.

تلك هي المسألة، الكل ميتون، وأنا رجل مؤمن بالله، كما تعرفون، وهذا يعني أن أعتبر أن الموت أمر طبيعي، ومن الضروري في هذه الحالة أن نفكر باليوم التالي ، وهو مصطلح دخل لغة السياسة بقوة مؤخرا ، وفي اليوم التالي إجراءات مابعد الموت، لذلك سأبدأ بالجنازة :

أصبحت الجنازة في بلادنا مكلفة، فقبل سنوات جاءني شاب فقير  في صباح العيد (بيننا معرفة) وأخبرني أن زوجته ماتت وأنه لايملك تكاليف الجنازة والقبر، فماذا يفعل، واضطر لبيع جهازه الخلوي والاستقراض من الناس، لذلك أوصي بما يلي : أن اُنقل في سيارة إسعاف إلى قريتي السورية الرائعة التي أحب (عسال الورد) في جبال القلمون، وأدفن في قبر أبي نفسه لأنني اشتقت إليه، فقد كان توفي عام 1979 على أوستراد تشرين في العدوي بحادث سيارة، وأن لايقام لي أي عزاء، وينبغي أن تحسب التكاليف في وقتها وأوصي بأن توزع على الفقراء .

أوصي أيضا بأن تقدم مكتبتي كاملة إلى المركز الثقافي في قريتي عسال الورد، وأن توضع الوثائق الصوتية لمقابلاتي مع الشخصيات السياسية والعامة في مكتبة الوطنية بدمشق لأنها وثائق عامة لايجوز التصرف بمحتواها الخاص الذي لم ينشر إلا بعد مرور وقت طويل، وأيضا أن تهدى المخطوطات القيمة التي بحوزتي معها لأنها ملك للناس.

لا داعي لشاهدة على القبر يكتب عليها اسمي، بل يضاف اسمي إلى اسم أبي مع تاريخ الوفاة، وقبل الدفن يوزع مبلغ سأحدده في وصية مغلقة لأسرتي على الفقراء، تحتوي نسخة من هذه الوصية وموقعة مني.

هناك كتابات لي لم تنشر بعد، نشرها وعوائدها من حق أسرتي، سواء حققت عائدات أم لم تحقق، ويضاف إليها حقوق نشر أعمالي المنشورة ، فهي من حق الورثة حتماً، وأرجو من الورثة عدم طباعة أي نسخة إضافية من مجموعتي الأولى (الكتابة على الماء)، وروايتي الأولى (ورده عان)، لأنني لا أوافق على ذلك ولم أسع إلى نشرهما من جديد وأنا حي.

إن الحياة التي عشتها بكل ما فيها من عذاب وتعاسة أو من فرح وسعادة علمتني أربعة أشياء أنصح كل من يقرأ هذه الوصية أن يتحصن بها :

أولا : التمسك بالانتماء الوطني مهما كانت ظروف هذا الوطن .

ثانيا : اتباع منهج المحبة والتسامح مع الجميع على أرضية أنك لن تستطيع أن تغير مافي الناس حتى يغيرو ما في أنفسهم .

ثالثا : التأني في اتخاذ القرارات المصيرية .

رابع : بناء الشخصية الخاصة بكل منا على عملية تثقيف وتجربة وخبرة طويلة هدفها الخير للجميع .

وأخيرا ، ولأنني كاتب وصحفي عاش تجربة تستحق أن تُعاش، فأنا سعيد بهذه التجربة، وأكبر موجة انتابتني من هذه السعادة هي تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرارا بأن يكون المعنى الإنساني كامناً في ما أكتبه وأنشره ، لأن المعنى سيترك أثره على الناس، ولا يمكن أن نتحمل وزر هذا الأثر إن كان شراً أو فسادا أو تدميراً للأخلاق .

 وخاتمتها قوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ..  

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى