آني أرنو تخط طريق التحرر من الوهم في ‘الاحتلال’
منحت الأكاديميةُ السويديةُ الأديبة الفرنسية آني أرنو جائزة نوبل للأدب لهذا العام 2022 وقدقيل في تبرير اختيارها :”إنّ عملها لا يقبل المساومة، ومكتوب بلغة سهلة،واضحة، ونقية”.
والأديبة آن إيرنو تبلغ من العمر لحظة تسلمها الجائزة 82 عاما. ولكن هذا الإنجاز العالمي لم يأت من فراغ، فقد جعلت هذه المرأة من الفن الروائي وسيلة لتغيير العالم وهي القائلة: “ليست وظيفة الكتابة علاج الجرح، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله عسيرا على النسيان”.
لذلك فقد أحدث أول عمل روائي لها “الخزائن الفارغة” عام 1974 صدمة كبيرة وردودفعل عنيفة في المجتمع الفرنسي، تمخضت عن صدور قانون جديد يبيح الإجهاض، بعد أن كان محضورا.
“الاحتلال” من الروايات القصيرة التي كتبتها آني أرنوفي مشوارها الروائي (لا تتجاوز خمسين صفحة)، تنسج أحداثها ورؤاها من عمق الحياة اليومية، ومن تجربتها الذاتية كامرأة تصطدم بما يحيط بها من متغيرات وعواطف ومسالك حياتية، حيث أن الآخر سواء كان عشيقا أو غريمة، سيتحول إلى تحد كبير لمسار حياتها.
وتنطلق الرواية من حوار داخلي هامس مع الذات، حيث تتقافز الأوهام والشكوك، كما تنشأ الرغبة في ترميم التصدعات التي نشأت في علاقة عاطفية بين الصوت السارد- الذي تمثله الكاتبة- وبين شريكها العاطفي.
فهي تتحدث عن عشيق سابق، أثار مللها، فقررت مقاطعته، ووضعَ حدٍّ لعلاقة بينهما استمرت عدة أعوام، ولكنها أبقت على خيط واهٍ بينهما، على هيئة صداقة تقليدية وليست حميمية.
ولكن ما أن تعلم من خلاله، بأنه ارتبط عاطفيا بامرأة أخرى، حتى يبدأ جحيم الوهم؛ فهي لا تريد استرداده إليها كعشيق أو زوج، وفي نفس الوقت، لا تريد من أي كائن أنثوي أن يملأ الحيّز الذي كانت تشغله ، لقد تشبثت به من جديد، وتذكرت مواقف حميمة تربطهما، وقد تجلى ذلك بعبارات صريحة، فلم تلجأ إلى الرمز والاستعارة بل شرعت بذكر الأعضاء التي تتعلق بفحولة الرجل، مما جعل أسلوبها مكشوفا وصريحا ومباشرا وينتمي إلى الأدب الأيروتيكي.
لقد عصفت بها رغبات عنيفة في امتلالك صديقها السابق من جديد، أو لنقل في استرداد نفسها لكي لا تصبح سلعةً منتهية الصلاحية. وذلك برفض فكرة أن (تحتل) امرأة أخرى اهتمام الرجل الذي كان لها، حيث تقول:” أصبحت مملوكة لامرأة أخرى لم أرها في حياتي”.
إنها الغَيرة التي بدأت تنهش عقلها وروحها، وتجعلها غير قادرة على التوازن والإنسجام مع الأمر الواقع.
ولم تذكر الساردة أسماء من وردوا في نصّها، بل أشارت فقط للحرف الأول منهم، مما يوحي للقارئ بأن هذه الشخوص حقيقية وقد مروا بحياتها فعلا، ولأنها كانت صادقة في الطرح فلم تشأ اختلاق أسماء بديلة.
لقدعلمت من خلاله أن غريمتها تبلغ السابعة والأربعين من العمر، وتشتغل في التدريس الجامعي، في مادة التارخ القديم، بعد أن كتبت بحوثا عن الكلدانيين.
كما علمت بأن المرأة الأخرى تسكن باريس، ورغم شحة هذه المعلومات عن الغريمة، والتي حصلت عليها من صديقهاw على جرعات وفي مناسبات متباعدة،ولكن ذلك لم يمنعها أن تبحث بشكل محموم وليل نهار،عن تاريخها، من خلال سجل أساتذة التاريخ في الجامعة، كما جربت استخدام دليل التلفون لمخاولة سماع صوتها عبر الهاتف، كما أنها كانت تترصد الشوارع الباريسية،لعل الصدفة تجعلها تلتقي بها وهي تتأبط عشيقها السابق، بل لجأت إلى التفكير بالسحر الأسود من خلال شك الدبابيس في جسد الغريمة والذي كوّنته من عجينة الخبز على غرار ما قرأته عن المجتمعات البدائية في النيل من الأعداء.
تُفصح الرواية، وبشكل صريح عن “متلازمة عُطيل” في الغيرة التي تؤدي إلى امتلاك العشيق أو تدميره، إنها حالة مرضية، لم تستطع الكاتبة تبريرها سوى أنها فقد فقدت القدرة على توازنها النفسي في وهم التمترس في إعلاءنرجسية الصوت الأنثوي السارد،والوقوع في بئر الذات الأنانية، والشك بالآخرين،على اختلاف صفاتهم،حتى أن عواطفها توهجت بالحقد والتوحش البدائي ضد امرأةمجهولة، لم تفعل ما يستدعي كل هذا البحث المحموم عن وسائل معادية لها.
في نهاية روايتها تتطهر من الوهم، من الاحتلال، من الغيرة، وذلك بكتابة أشجانها وأوهامها، لقد تخلصت من هذا العبئ بواسطة الكلمات. رغم أنها تقر:بأن “ليست وظيفة الكتابة علاج الجُرح، وإنما إعطاؤه معنى”.
لقد كتبت آني أرنو روايتها هذه بتلقائية وعفوية، وبعبارات صريحة، ولم تتردد في ترميز التابوات الجنسية، فالكتابة لديها هي الخلاص من عبئ اللحظة، والتطهر من آثام الوهم.
لقد تحررتْ في النهاية، وأبدعت لنا رواية جميلة، نفذت من خلالها إلى أعماق المرأة؛ في ضعفها وقوّتها، بدائيتها وتحضرها، في حبّها وكراهيتها، فقدمت لنا نصّاً روائيا يزدحم بمعالجات للكثير من الأزمات الروحية التي نتعرض لها كبشر.