تحليلات سياسيةسلايد

أبعد من الأزمة الجيوسياسية: أفُق الصراع بين روسيا والغرب

الصراع بين روسيا والغرب كان محكوماً، دوماً، بوحدة الموقف الجيوسياسي الغربي ضدّ روسيا، حتى في ذروة الحرب الباردة حين كان تأثير الاتحاد السوفياتي السابق يطاول مجمل الأحزاب الشيوعية في الدول الغربية. لم ينعكس ذلك ضعفاً على الموقف الغربي حينها، لأنّ طبيعة الانقسام الأيديولوجية كانت تتيح للغرب سهولةً أكبر في الحشد ضدّ روسيا، حتى وهو يواجه نفوذها داخل حدوده، عبر مجموعات اليسار التابعة لموسكو. لم يكن المنظور الجيوسياسي للصراع في صُلب المواجهة بين الطرفين بعد، ولم تكن قيادة المواجهة في الغرب على هذا القدر من «التصدّع» الذي نراه الآن. الانقسامات بين الأحزاب الحاكمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة كانت بعيدة عن محور التشكيك بالصراع مع روسيا، فالجميع، في اليمين واليسار، كان متفقاً على أولوية مواجهتها. وحتى حين كانت أحزاب اليسار هناك تُتّهَم، يمينياً، بالمحاباة لموسكو، كانت الاتهامات لا تلقى كثيرَ اهتمام، أو في أسوأ الأحوال تُعتبَر بمثابة دعاية انتخابية لليمين قبيل الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية. ظلُّ دولةِ الرعاية التي صِيغت لتفادي سهولة الانقياد إلى الاشتراكية، من جانب أحزاب يسار الوسط في الغرب، كانت بمثابة كابح مستمرّ لتظهير الانقسام التاريخي هناك حول طبيعة العلاقة مع روسيا.

ملء الفراغ الذي خلّفته الاشتراكية

زوال الاشتراكية، بحسب المنهج السوفياتي، سواءً داخل الكتلة الاشتراكية سابقاً، أو حتى عبر انعكاساتها على الأحزاب اليسارية في الغرب، عطّل العمل بهذه الكوابح، وتسبَّبَ في نقل هذه الانقسامات حول الموقف من روسيا من الحيّز الأيديولوجي الصرف إلى نظيره الذي تتداخل فيه تأثيرات سيادة الرأسمالية، وحدها، عالمياً، مع البعد الجيوسياسي الذي كان غائباً عن الصراع، حين كان ثمّة معسكران مهيمنان فقط؛ رأسمالي واشتراكي. الانهيارات الاقتصادية التي حصلت في روسيا غداة سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، مع غياب الاشتراكية، أظهرت الحاجة إلى ملء الفراغ، ليس في مواجهة الرأسمالية بحدّ ذاتها، بل للحدّ من حصول انهيارات أكبر في حال عدم صعود بديل من الأيديولوجية الاشتراكية. على اعتبار أن هذه الأخيرة إنما كانت بمثابة نقطة توازن، ليس فقط بالنسبة إلى روسيا ودول العالم الثالث الحليفة لها، بل أيضاً إلى العالم أجمع، بما في ذلك الدول الغربية التي بدأت تنهار فيها دولة الرعاية بالتزامن مع انهيار الاشتراكية في العالم.

ولكن ذلك لم يحدث، حتى بعد مرور عقد على الانهيار الكبير في العام 1991، وهو ما أفضى إلى صعود قوىً داخل روسيا لا تعتبر أنها معنيّة ببعث الاشتراكية، أو أية أيديولوجية بديلة عن الرأسمالية، بقدر اعتنائها بوقف الانهيار الحاصل في بنية الدولة الروسية على مختلف الصُعُد. هذه الحقبة هي التي شهدت، ليس فقط صعود نجم فلاديمير بوتين، كعرّاب لهذه السياسة، بل أيضاً عودة روسيا إلى الساحة الدولية بعد السنوات العجاف تحت حكم بوريس يلتسين. هذا الصعود حَمَل معه بذور تثبيت الموقع الجيوسياسي لروسيا كقوة إقليمية كبرى، ولكن من دون امتلاك الأدوات كافة لاستعادة النفوذ الكبير الذي كان يحظى به الاتحاد السوفياتي السابق على مستوى العالم. تطلَّب الأمر عقداً آخر ونُذُر مواجهةٍ إقليميةٍ كبرى، في جورجيا، على خلفية الأزمة في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في العام 2008، حتى يبدأ الرجل في بلورة تصوُّر أوضح عن طبيعة الدولة المُراد إعادة بنائها. أي لجهة الحدود والنفوذ الإقليمي وإمكانات المواجهة مع الغرب من عدمها، وما إذا كان التصوُّر الجيوسياسي الذي أتى به إلى الحكم كافياً وحده لقيادة دولة بحجم روسيا، بغياب الأيديولوجيا الكبرى التي كانت بمثابة بديل، حتى قبيل الانهيار الكبير، عن الحلّ القومي «الإشكالي» للمسألة الروسية.

خطّ المواجهة من جورجيا إلى أوكرانيا

المواجهة في جورجيا كانت ستفضي حُكماً، ولو بعد سنوات من وقوعها، إلى مواجهة أكبر مع دولة، ليس فقط أكبر من جورجيا من حيث المساحة وعدد السكان وحجم التأثير، بل أيضاً تجمعها مع الغرب صلات أعمق، إلى درجة اعتبارها أهمَّ حليف له بين دول الاتحاد السوفياتي السابق. المواجهة حينها لم تُخَض مباشرة، كالعادة، بل عبر وكلاء، ليس فقط بسبب الافتقار إلى ذريعة للتدخّل المباشر، بل أيضاً لأنّ النظام الذي حكم كييف، بعد سقوط حكومة فيكتور يانوكوفيتش الموالية لروسيا، لم يكن، هو الآخر، يحظى بشرعية أكبر من تلك التي حظي بها متمرّدو الدونباس في دونيتسك ولوغانسك. الافتقار المتناظر إلى الشرعية لدى طرفي الصراع حصَرَ المواجهة بدايةً في إطار محدَّد، ولم يقُد بالتالي إلى اشتباك مباشر بين روسيا والغرب. هذا أبقى الطابع الجيوسياسي للصراع في إطار الفضاء الروسي، بحيث لم يتطوَّر إلى نزاع أوسع مع الغرب كما يحصل حالياً. على أنّ الردّ الروسي على إسقاط حكم يانوكوفيتش، عبر ضمّ القرم، لم يكن خارج رغبة روسيا في تسجيل مزيد من النقاط على الغرب، ضمن صراعها غير المباشر معه لاستعادة نفوذها على الإقليم. وهو ما قاد لاحقاً إلى انتهاج سياسة العقوبات الغربية ضدّها، ابتداءً من العام 2014، على خلفية عدم الاعتراف بالضمّ، والتي تطوّرت لاحقاً لتتحوّل إلى نظام متكامل ومتدحرج، ستبدأ على إثره أكبر عملية مواجهة بالوكالة بين الطرفين منذ انتهاء الحرب الباردة. الاختراق الذي تمثّل لاحقاً في إنشاء مجموعة النورماندي للتسوية، التي تضمّ، إضافة إلى أوكرانيا وروسيا، كلاً من ألمانيا وفرنسا، لم يمنع تصاعد الصراع في الدونباس، أو حتى جموده لاحقاً بُعَيد توقيع اتفاقيات مينسك في بيلاروسيا، على اعتبار أنها تسوية تقوم على تصوّر غير مُتفَق عليه تماماً في الغرب. حيث الرغبة في التهدئة من جانب فرنسا وألمانيا لا تلاقي آذاناً صاغية في الولايات المتحدة، المعنية باستمرار الصراع بوتيرة معيّنة، أو حتى تجميده، لتحصيل مكاسب أكبر من روسيا.

الوجهة المُعتَمدة إزاء روسيا كانت تضعها في صُلب الصراع، ليس كخصم تاريخي فحسب، بل كدولة يُعاد في مواجهتها، باستمرار، إنتاج تصوُّر الغرب عن نفسه

تزايُد حدّة الانقسام حول روسيا غربياً

تصاعُد نظام العقوبات ترافَقَ مع أحداث في الغرب لم تشهد المواجهة بين الطرفين مثيلاً لها سابقاً حتى حين كان الصراع بين الرأسمالية والشيوعية على أشُدِّه. صعود أحزاب من أقصى اليمين وأقصى اليسار هناك، سواءً إلى السلطة مباشرةً، كما حصل في النمسا والولايات المتحدة، أو إلى متن العملية السياسية، على غرار ما حدث في فرنسا وألمانيا حيث النفوذ الكبير للدول المركزية هناك، أحدَثَ انعطافةً كبرى في الوجهة الغربية المُعتَمدة إزاء روسيا. وجهة كانت تضع روسيا في صُلب الصراع مع الغرب، ليس كخصم تاريخي فحسب، بل كدولة يُعاد في مواجهتها، باستمرار، إنتاج تصوُّر هذا الأخير عن نفسه سياسياً وأيديولوجياً واستراتيجياً وحتى «ثقافياً». والحال أنّ ذلك لم يفضِ فقط إلى تصدُّع نسبي في وحدة الموقف الجيوسياسي للغرب تجاه موسكو، بل أيضاً إلى مناقضة السردية الرسمية عن التهديد الذي تمثّله روسيا، دوماً، بالنسبة إليه. ثمّة أحزاب الآن تتنافس على السلطة في الدول الغربية، وتحديداً في أوروبا، ببرامج انتخابية لجهة السياسة الخارجية يقع «التعاون مع روسيا»، إن لم نقل في صلبها فعلى الأقلّ في مكانة تضعها في خانة الحليف المُحتَمل على المدى البعيد. وهي سياسات تبدأ من توريد الطاقة ولا تنتهي عند حدود التشكيك بجدوى التوسّع المستمرّ للـ«ناتو» ومعه نظام العقوبات المُعتَمَد ضدّ موسكو. عدم وصول ذلك بسرعة إلى المتن السياسي هناك، حيث النفوذ الكبير للأحزاب الأطلسية في اليمين واليسار، لا ينفي وجود هذه الانقسامات، بل يعزِّزها، لأنّ النفوذ الكبير لهذه الأحزاب مرتبط بالصراع داخل أوروبا نفسها، والغرب عموماً، بين «النخب الأطلسية»، التي ورثت تقسيمات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ونظيرتها «الأنتي – أطلسية»، التي تريد التخلُّص من هذا الإرث وفتح أفق جديد أمام أوروبا والغرب عموماً. نِسَب التصويت في الانتخابات، من دورة إلى أخرى، هي شكل من أشكال هذا الصراع الذي يحمل بالضرورة طابعاً تاريخياً، حيث نشهد في كلّ دورة مزيداً من الصعود للكتلة المناهضة للأطْلَسة، سواءً في اليمين أو في اليسار، ولكن ببطء وثبات، نظراً لاستحالة إحداث انقلاب في المشهد السياسي هناك بين ليلة وضحاها. الطبيعة التاريخية للصراع هنا لا تقتصر على الموقف من روسيا، بل تتعدّاها إلى جملة من السياسات التي يريد كلٌّ من «اليمين الجديد» واليسار الجديد، من خلالها، استعادة القرار الغربي لمصلحة أكثرية وازنة داخل أوروبا والغرب لم تعد تجدي في «الأطْلَسة» والترسمل المالي المفرط ما يمثّلها. ومن هنا أهميُّتها، بالنسبة إلى مستقبل العلاقة بين روسيا والغرب، حيث تتعاظم الرغبة داخل هذه الكتلة، التي لم تتبلور سياسياً وأيديولوجياً بعد على نحو واضح، إلى الانتهاء من مرحلة المواجهة مع روسيا لجهة صياغة السياسات انطلاقاً من اعتبارها عدوَّ الغرب أو خصمه الوحيد والمُطلق.

خاتمة

حدّة المواجهة الحالية نابعة، ليس فقط من وصول خطّ الصراع ــــ الذي بدأ في جورجيا قبل انتقاله لاحقاً إلى أوكرانيا على شكل نزاع انفصالي وقضم للحدود والأقاليم ــــ إلى ذروته، بل لاستشعار روسيا أنّ هذا التصاعد مترافق مع تآكلٍ مستمرّ في البنية الإقليمية المحيطة، الفاصلة بينها وبين مناطق نفوذ «حلف شمال الأطلسي» ومن خلفه الولايات المتحدة. ولذلك تمحوَرَت طلباتها، استباقاً للنزاع الحالي، حول الضمانات الأمنية، المُراد من الغرب الاستجابة لها، لجهة إيقاف تمدُّد حلف الـ«ناتو» شرقاً، والحدّ من البنية التحتية العسكرية التي يضعها في دول أوروبا الشرقية. عدم حدوث ذلك لن يقود إلى مواجهة عسكرية، بالضرورة، ولكنه سيضع الصراع على مسار تصاعدي، حتى بعد انتهاء الأزمة الحالية، على اعتبار أنّ انضمام أوكرانيا إلى الحلف ليس بالأمر الجديد، وهو لا يختزل المشكلة أصلاً، كون التمدّد باتجاه روسيا يحصل مع عضوية أوكرانيا في الـ«ناتو» أو من دونها.

المواجهة الجيوسياسية بهذا المعنى ستستمرّ، ولكن بالأدوات ذاتها، حتى تلك التي تستعملها روسيا ويعتبرها البعض، لانتفاء سواها من الخيارات، بديلاً مقبولاً من التصوُّر الأيديولوجي التاريخي المتمثِّل في الاشتراكية. والحال أنّ التعويل على الصراع الجيوسياسي وحده لا يقود إلى مكان على المدى البعيد، لأنّ جغرافيا الصراع تتغيّر باستمرار، لجهة الاعتماد المتزايد على الأدوات الاقتصادية، أكثر منها السياسية أو الاستراتيجية. وهو ما فهمته الصين، حليفة روسيا، أكثر من سواها من خصوم الغرب، مع أنها تخوض المعركة على الأرضية نفسها معه، أي الرأسمالية، ولكن بخصائص صينية، كما تقول هي عن اشتراكيّتها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى