كتاب الموقعنوافذ

الحديد… والحرير !

” أنا لا أطمع بأية أرض… باستثناء تلك التي تجاور أرضي !”

الحديد… والحرير

… هذا الطريق لا يمكن نسيانه !
الطريق الأسود المتلوي بين التلال الجرداء والوديان الصغيرة الغامضة.  وهذه الصخور الزرقاء ، ابنة بركان أركان حرب… قديم وقبضته في عجين البازلت، واضحة الجبروت.
تلك الشجيرات الشوكية الصغيرة… مخبأ غبار الأيام والأقدام والعابرين من الغزاة.
وهذا الأفق الأزرق الداكن تحت ذراعي “جبل الشيخ” . وذاك التراب الأحمر، كأنه البحر الملوّن في واد مترع بالماء والدماء ، وأصوات الغموض المخيف…
باختصار…
هذه البرية الفاضلة المستوحشة، المعزولة، المستفرد بها… هي تلك الأماكن التي عششت فيها الدبابات السورية، منذ جيل الـ ت   34 إلى جيل الـ ت 72 ، وكذلك المدافع في مرابضها، والخيم العسكرية في وديانها، والجنود الأحداث الحليقون… هم وحدهم مواطنو ذلك المكان القفر.
هنا الطريق من دمشق إلى القنيطرة، مروراً بالمعضمية المنكوبة الآن، عبوراً بمخيم خان الشيح و سعسع التي ذكرها نزارقباني في تحويره لأغنية فيروز، بعد هزيمة 1967:

عفواً فيروز ومعذرة
أجراس العودة… لن تقرع.
خازوق دُقّ بأمتنا…
من شرم الشيخ إلى سعسع !

كل هذه الأماكن أتذكرها، كنثر مبعثر في أوراق ممزقة، كجغرافيا على خريطة الحروب، وعلى سفوح يزخرفها ماعز توراة أسود. كبيوت صغيرة هشة لرعاة وفلاحين فقراء، وجوههم هي القسم الحي من لوحة البركان الخامد.
بيوت خافتة الصباح، تلك التي بمخلب صغير من مدفع إسرائيلي تصبح ركاماً وأشلاء حياة…
كنا نمرّ من هناك في صباحات مبكرة، للصيد في وديان ” الرقّاد” وأنا كنت أسميها” الرقاد” أي النعاس الخفيف، حين تمر أسراب اليمام وأنا غافل، وإلى جواري الموسيقي صلحي الوادي، يصور رائحة الصخور، بدلاً من تصويب سلاحه نحو الطيور. وبعيداً في زاوية الكمين، الزعيم الحالي، والصديق القديم ميشيل كيلو، يلطأ خلف صخرة ليخطف السرب الأول.
هذه الأماكن…
أذكرها، أنا وحدي، في صباحات مبكرة أخرى، حين كنا نذهب، قبل الفجر، إلى جبهة القتال في خان أرنبة، والقنيطرة، وتل الشحم، وبريقة و بيرعجم، وضهرة الأرانب (في الجولان)… قبل الفجر في حرب تشرين 1973 … أي قبل استيقاظ الطائرات الإسرائيلية لتناول إفطارها من لحم الجبهات.
الفارق بين فجر وآخر… هو ذلك الدخان المنبعث من كل شيء، وذلك الهدير الآتي من كل شيء… الفارق هو أصوات الحرب الغزيرة الغامضة، الخائفة من نهايتها، على خرائط الطرفين !
هذا زمن الحرب…
وفي زمن الحرب… لا أحد يشتري أرضاً تقيم فيها الدبابات. أو تدهسها العربات، وهي في طريقها إلى قيلولة الهدنة !
في زمن الحرب…
لا أحد يقيم قصراً على الطريق الحربي، ومسبحاً في المدى المجدي لمنظار الرقابة الإسرائيلي في مرصد جبل الشيخ.
في زمن الحرب…
المكان كله خاكي اللون، وموحش، وصامت. وحين تزخرفه الطبيعة تكون قد خلطت لونين فيه : الجمال والرهبة !
……..
مضت الأيام…..
جرت دماء أخرى في عروق أجيال أخرى.
وسالت دماء غزيرة في وديان سياسات، وأحلاف، وعروبات بائدة. وفجأة…
فجأة، يوم واحد بعد “مؤتمر مدريد” للسلام 1991 بعد حرب الخليج لتحرير الكويت…
فجأة استيقظ المستقبل على النحو التالي: حمّى شراء الأراضي البور في الطريق الخازوق سعسع ـ خان الشيح ، القنيطرة ، و… إلى يافا !
يافا أقرب من بيروت، والطريق أجمل، وأكثر إثارة للخيال .
فجأة انتشرت فيلات ” فخامة السلام” بدلاً من بيوت ” ركاكة الحرب”.
ازدهرت تجارة الأراضي. وارتفعت أسعار بيوت الدبابات بين الصخور.
فانتعش التجار والجنرالات.
وتسابق الموسرون على غنيمة رعاة… الغنم.
فجأة…
لا أحد يدري كيف أطلق الناس على هذا الطريق الحربي ” طريق السلام” ، وصارت تتناسل أسماء الأماكن في لغة السلام : ملحمة السلام. مصبغة السلام. سوبر ماركت السلام .
وهكذا بدلاً من ” طريق الحديد” القديم، الذي لا أنسى تلك الصباحات فيه, صيداً وحرباً، أصبح عندنا ” طريق الحرير” !
وهكذا أيضاً…
طريق السلام من دمشق إلى حيفا، أقصر من الطريق إلى بيروت…
إنه الطريق إلى البحر…
الذي تفتحه، عبر العصور، القوافل، بالحديد أو …بالحرير!
لكن السلام أخبث وأكثر دهاءً من الحرب:
هذا الطريق مغلق… لإصلاح الزمن !

 

16.11.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى