كتاب الموقعنوافذ

الكلب.. وهو يكشف مرضاً !

الكلب.. وهو يكشف مرضاً !

“الخَرَفُ الكاذب…إدعاء اليقين !”

كان يشرد سابقاً، وهو في حالة تأمل نتيجة إثارة ما. وكان ذلك مخصباً ومبدعاً. الذاكرة تختزن بصرية الصورة الخارجية مثيرة الشرود.
اليوم …
يشرد بلا شيء. سوى أن فكرة هنا، وذكرى هناك تسوقه من موقع ملموس إلى مكان معنوي لا معنى له.
هذه… علامة سيئة.
……
كان يتذكر كل الأشياء الجميلة، على أنها حدثت في زمن المتعة، حين كان الشباب شجرة تنمو، والحياة غابة رفاق سعداء…
اليوم… يتذكر هذه الأشياء الجميلة بوصفها ناقصة، ولم تكن حقيقية… ثمة شباك مكسور بدلاً من عصفور على الشباك.
هذه علامة أخرى سيئة.
………
كان يسهر طويلاً، يستمع إلى الموسيقى التي ترفرف، وإلى الأغاني ذات الأجنحة المضيئة، ويكتب انطباعات التأثر، وتمنيات الحضور لأشخاص غابوا، وأصحاب على أهبة الحضور.
اليوم…
ينام وهو يأكل. يغفو على حجر. أمام التلفزيون، وراء مقود السيارة.. حيثما جاءه النعاس يرخي جفنيه، ويترك وراء باب الدنيا يقظته… وينام.
إنه ينام وهو أمام صور توقظ الحجر… وعلى مرأى من قنبلة قادمة تهدم الحجر.
هذه علامة سيئة ثالثة.
……………
كان يفكر ببناء غرفة على حافة الوادي، الوادي الذي آوى معظم ذكريات الصبا… يملؤها كتباً، موسيقى، وصوراً على الحيطان… وكتابات من مختلف مصادر القيمة العليا لجمال هذا الكون.
اليوم…
صار يفكر كيف يتخلص من هذه الكائنات الصامتة على رفوف الجدران، مصفوفة، ومليئة، وتتقدم في السن: ” أيتها الكتب، أيتها التي فسرت الكثير، وبقي الكثير في المجهول… ماذا فعلتِ بي؟ ”
هذه علامة سيئة رابعة.

…..
كان بريئاً في نظر نفسه… فأهل الذات أدرى بشعابها.
وكان نظيفاً في وجدان الآخرين، تهبّ في يديه الحرارة، وهو يلمسهم في الأعماق الدافئة على أطلس الحياة.
صار… أسير ذنب لم يقترفه، وجريمة لم يكن أحد أركانها، وقصور ضمير كان حياً، يعزف نايه المفرد في حضرة ابن عربي، صمتاً كل سنة يزوره فيها.
صار يخاف الضحك، والسرور الزائد، يجلس على حجر، فلا يتركه حتى يجيء نعاسٌ آخر !
هذه علامة سيئة خامسة.
.
كان يكتب أشعاراً
كانت تخرج من فمه اللغة التي تجعل نهداً ينط من مكمنه، ذاهباً إلى أقاصي يده…
كان يحب السفر… فضول محتويات فنادق هذا العالم.
كان يعين ارتباك الأصدقاء قائلاً: ” لا تشمّر يا صاحبي قبل الوصول إلى ضفة النهر…”
العبور فتنة الضفة الأخرى. تمهّل، وتلذّذ ببرودة الماء والحصى تحت قدميك.
والآن ينسى. يتذكر وينسى. يبّدل مكان جلوس الفاتنات الغابرة في مقعد الأيام القديمة… يحاور من لم تعد هنا على قيد الحياة، وهناك من لا تعود من رحلتها البعيدة أبداً .
الآن… هذا ” خَرَفٌ كاذب” يسميه علم النفس. وفي صفحات أخرى: “اكتئاب المرحلة” وفي صفحات أخرى : هذا رجل محتاج إلى “حبة الرحمة” أو طلقتها.. كجواد مكسور في حربٍ قديمةٍ، لا طروادة فيها انتصرت، ولا ملحمة عنها كتبت!

هذه علامة سيئة أخرى…

……………
والآن قال له الطبيب هذه علامات الكآبة. أنت في حاجة إلى مشفى… إلى علاج مستدام.
قلت له: مثلي لا يتلوى كغصن في الريح. مثلي ينكسر كشجرة في عاصفة…
…………….
… وفيما هو يكتب ما حل به، غير مصدّق ترهات علم النفس المرضي، وعلم النفس الحربي، وعلم النفس الاجتماعي…
نبح الكلب إلى جواره تحت الطاولة… نباحاً غريباً. وفشلت كل محاولات إسكاته. كان النباح كأنما على زلزال قادم.
غضب الكاتب. أغضبه عناد الكلب. صوته. غموض ما يريد… ففكر أن يضربه ضرباً مبرحاً. أن يسكت زلزاله الآتي، نبوءة ذكاء الفطرة. ضربه ولم يسكت.
فما كان منه إلا أن أمسك شريط الهاتف وقطّعه، ثم جَدَل منه “كيبلاً” مرناً… وساطه به. سكت الكلب، لكنه صار يئن دون توقف.
فجأة تذكر السياط المجدولة من الكيبلات وأسلاك الهاتف وأسلاك الكهرباء… التي انهالت على قدميه، ذات سنة من عمر سورية الحديثة. تذكر آثارها. دمها الأزرق. ندوبها التي لا تزول. تذكر شهادات من عبروا سجون سورية خلال أربعين عاماً…
أمسك الكلب الذي يئن. وضعه في حضنه ثم بكى، موقناً، الآن، الآن على وجه اليقين، أن ما حدث له … هو العلامة السافلة القصوى المؤكدة للإكتئاب … لكن ليس من وجهة علم النفس المرضي… بل  من زاوية علم

نفس الأوطان :

كيف يتشوه المكتئب الوطني…
فيغدو ضحيةً وجلاداً في وقت واحد !؟

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى